في ثاني تجاربه الروائية الطويلة، قّدم المخرج المصري يسري نصرالله «مرسيدس» (1993) وهو فيلم ناقش قضايا عدّة منها التغيرات السياسية والإدمان وتجارة المخدرات والتطرف الديني والشذوذ والفساد. عرض نصرالله آنذاك وجهة نظر خاصة بما يدور في مصر، أوائل تسعينات القرن الماضي، من خلال قصة شاب قضى فترة شبابه في مصحة عقلية، ليخرج ويكتشف التناقضات. لكن «مرسيدس» (2011) للمخرج اللبناني هادي زكاك، تختلف كثيراً عن ذلك. أرادها أن تروي سيرة بلد، وتنبش الذاكرة الجماعية، وتفكك نسيج المجتمع اللبناني. في فيلمه الوثائقي (68 دقيقة)، ينطلق زكاك من أواخر فترة خمسينات القرن الماضي، حين وصلت سيارة المرسيدس من ألمانيا لتستقر في لبنان، فتحوّل بعضها إلى سيارات أجرة، فيما اقتنتها فئة من الميسورين لأناقتها وفخامتها. جالت السيارة بسلام في المدن، وشهدت فترة الازدهار في الستينات، لكن بداية الحرب الأهلية (1975) خيّبت آمالها، فقصفت في الاجتياح الإسرائيلي (1982) وتعرضت للرصاص من قبل نيران عدوة وصديقة، ونقلت الجرحى والقتلى إلى المستشفيات تحت القصف. كما شهدت المرسيدس وقف إطلاق النار (1990)، والانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان (2000)، وبكت على اغتيال الحريري (2005)، واستشهدت في حرب تموز (2006). بعدما لمس زكاك التركيبة الطائفية في عمليْه «أصداء شيعية من لبنان» و «أصداء سنية من لبنان»، بحث عن شيء ما ، قادر على أن يخبر الحكاية، ولكن من دون سرد، بل من خلال الصورة فقط. استعان المخرج الشاب بالمرسيدس، بعدما رافقت تاريخ لبنان منذ نشأته، وعاصرت حروبه وآفاته ومشاكله. تأقلمت سريعاً مع العادات والتقاليد اللبنانية، ونسيت جذورها الألمانية، وتزيّنت بأمور تدل على طائفة السائق، وصور وشعارات مذهبية، كما راحت تمشي عكس السير، وتركن في أماكن غير مخصصة للوقوف. وحملت المرسيدس الطبقة الكادحة، وأوصلت المقاتلين لقتل شركائهم في الوطن، كما أقلت أمراء الحرب إلى كراسي البرلمان والوزارات. هذا النقد الشامل الذي يقدمه زكاك للوضع اللبناني من خلال الاستعانة بسيارة المرسيدس، محاولة لبناء ذاكرة جماعية للأجيال الجديدة، كما أنها محاولة للتصالح مع الماضي وفهمه، علّ الاستعادة تمنع حروباً مقبلة. ويحاكي زكاك الوضع العام من خلال هذه السيارة الألمانية، فالتي فقدت عيناً في الحرب أو أصيبت نجدها اليوم، لا تزال بلا عين، والتي خُطفت وفُجّرت، لا تزال تقبع مكانها. أما التي ساعدت في السرقة والنهب والقتل على الحواجز، فنجدها اليوم في أبهى حلة، مصفحة ضد الرصاص، نظيفة جداً ولا تستقلها إلا الطبقة الحاكمة. هذه المقاربة السينمائية، تفتح أفق التخيل للمشاهد لإسقاط الصور المناسبة على أي حدث أو فعل قام به أحد السياسيين بعد انتهاء الحرب. كما يقدّم زكاك موقفاً سوريالياً تدور أحداثه في العام 2020، حين يصبح لعائلة المرسيدس مجلس شيوخ، وينخرط أبناؤها في الأحزاب والطوائف اللبنانية. أعطى المخرج البطولة المطلقة لسيارة المرسيدس، لما تخزنه من قصص وروايات، ومشاركتها الدقيقة في تفاصيل الحياة اللبنانية. كما منحها بعض فترات الحب والسلام، من خلال مشاهد مركبة جمعتها بصديقاتها وكأنها تمثل حالات وفاق بين الطوائف. لم نسمع في الفيلم سرداً بشرياً، أراد المخرج معالجة الذاكرة اللبنانية الجماعية والفردية من زاوية مبتكرة. دخل إلى تفاصيل جديدة في التاريخ اللبناني من خلال سيارة، لا من خلال وجهة نظر مواطنين يتأثرون بفرضيات زعمائهم ورواياتهم. والتقط زكاك تفاصيل صغيرة زيّنت المرسيدس من عين زرقاء حامية من الحسد إلى شعارات دينية وكتب سماوية، وأوشحة سياسية وحزبية. وأراد المخرج القول من خلال هذا المشهد وبشكل غير مباشر، أن السيارة تجمع تناقضات المجتمع اللبناني، وتكشف أسراره، وتعرض الموروث الاجتماعي، والآراء السياسية المتضاربة. كما عرض صاحب «بيروت وجهة نظر» (2000) مشاهد كانت فيها السيارة، عنصراً أساسياً كمشاركتها في عمليات البيع والشراء وعرض الخضروات والأسماك، والتهجير وحملات الدعم الانتخابي والتأييد الحزبي، والمشاركة في أعياد رسمية. ويستند الفيلم إلى عملية بحث هائل واضح في لملمته للتفاصيل، والعودة كثيراً إلى صور الأرشيف.