سقط «نابليون عمّان» وهو في بداية العقد السابع من عمره. كانت التجاعيد حفرت أخاديدها في وجهه، وتهدل حاجباه، وتدلت من تحت عينيه أكياس الحزن. مات «نابليون» بصمت في قاع المدينة القديمة، بين أكوام القمامة وعلى رصيف ملبد بالسواد، كان يتخذه، وغيره من الأرصفة، بيتاً. طوال عقود، لم يهتم الرجل بقصّ شعره أو حلاقة لحيته الكثة، حتى أصبح، بمرور الزمن، معلماً من معالم العاصمة الأردنية. اختار حياته كما يهوى وجاء موته كما أراد... عبارة تتردد على ألسنة أصحاب المحال في وسط المدينة. ويعدّ «نابليون» من أشهر الذين رسموا لحياتهم طريق التشرد والبؤس في شوارع عمّان القديمة وأزقتها الضيقة. لم يكن يفعل شيئاً سوى التسكع، وفي يده كتّيب ممزق أو قصاصة من صحيفة بالية، ويقرأ على نحو غريب قد يدفع بعض المارة إلى اللحاق به لمعرفة ما يقرأ وما يقول. ومثل «نابليون»، رجل مجهول آخر يجوب، منذ عقود ثلاثة، أزقة المدينة القديمة وأدراجها المتهالكة، بجسد نحيل وثياب ممزقة، متأبطاً «كرتونة» متسخة أو أكثر، يجعلها وسادته. غالباً ما يتسكع في ساحة المسجد الحسيني وشارع الطلياني القديم. اعتاد الناس صوته المتقطع، مردداً عبارات غير متسقة. وعلى ذمّة أحد باعة الكتب المخضرمين في وسط عمان، فإن الرجل كان وما زال قارئاً جيداًَ، يتردد على المكتبة، وأصرّ البائع على أنه مثقف أيضاً. وعلى عتبات مطعم قديم يؤمه مئات الأردنيين والسيّاح، قد يصطدم هؤلاء بجثة هامدة لواحد من عشرات المشردين الذين غطوا أجسادهم الخشنة بأكياس بلاستيكية، تقيهم حرارة الشمس وبرد الشتاء. تتوالى قصص هؤلاء... يفترش الستيني أحمد زقاقاً مؤدياً إلى قصر العدل القديم، تحت رأسه قطع قماش بالٍ. وامرأة عجوز، طاعنة في الشقاء، تتمدد بملابس رثة على درج قريب من المدرج الروماني. ولا غرابة في أن تتحول أروقة المسجد الحسيني الكبير، أحد أقدم المساجد في الأردن، مكاناً لخلود المشردين إلى النوم، ساعات طويلة، تمتد إلى ما بعد صلاة العشاء، حتى يجبرهم الحراس على مغادرة المسجد تمهيداً لإغلاقه. وتبدأ حينها رحلتهم المضنية في البحث عن ملاذ آمن لنومهم، في الشوارع الضيقة والحواري القديمة. وعلى عتبات وسط البلد، يرابط السبعيني محمود الناطور، مزنراً بالصبر والخبز اليابس، محاولاً بيع ما في جعبته من أوانٍ. انحناءة ظهره وشيب شعره لم يؤديا به إلى الاستسلام، على رغم العناء الذي يتجشمه لتأمين قوت يومه بعدما تقطّعت به السبل. ويتحدث الناطور الذي يصفه المارة ب «ختيار المدينة» عن قصص وحكايا مؤلمة لمشردين نالت منهم قساوة العيش. لا أرقام دقيقة أو إحصاءات رسمية عن عدد المشردين في الأردن. وفيما تنفي وزارتا الصحة والتنمية الاجتماعية مسؤوليتهما عن هؤلاء، يقول المتخصص الاجتماعي حسين خزاعي «إن المشردين، خصوصاً كبار السن، يتحولون نتيجة تجاهل المجتمع إلى قنابل موقوتة يمكن أن تنفجر في أي لحظة»، مضيفاً أن «على الحكومة إيواء من يبدو عليهم الجنون وينتشرون في الشوارع وعلى الأرصفة بلا مأوى». لكن الناطق باسم وزارة الصحة حاتم الأزرعي يقول إن «إيواء هذه الفئة ليس مسؤولية الوزارة، فالصحة لا تبحث عنهم في الشوارع بل تقدم العلاج لمن يطلبه منهم في العيادات النفسية، وعددها أربعون». ويربط بين ظاهرة اللجوء إلى الشوارع ومعدلات الفقر المتصاعدة. وبلغة الأرقام، فإن نسبة الفقر، بحسب دراسة لوزارة التخطيط الأردنية، تقارب 14 في المئة. والدراسة التي يجهلها مشرّدو الأردن، تفيد بأن خط الفقر في المملكة سيرتفع تبعاً لارتفاع معدلات التضخم، وبلغ هذا المعدل، خلال السنوات الأخيرة، أكثر من 13 في المئة.