أطلّ مهندس الاتصالات الثلاثيني الفرنسي من جذور مغاربية، في برنامج المقدّم الشهير تييري أريديسون، Salut Les Terriens على شاشة Canal Plus، ليكشف، بعد عام على نجاته من محاولة انتحار فاشلة، كيف دفعته المنظومة التي اتبعتها إدارة شركة France Telecom ل «تطفيش» موظفيها، إلى النفق الأسود الذي قاده إلى يأس أعمى خطير. وهي المنظومة التي تسبّبت حتى اليوم بانتحار عشرات الموظفين الشباب في الشركة، والحبل على الجرار. وفي التفاصيل أن شركة الاتصالات الأولى في فرنسا اعتمدت خطة من ثلاث مراحل نصحتها بها شركة استشارات خاصة، للتخلّص من كبار موظفيها اللامعين في مراكز رئيسة، بأيدٍ نظيفة، ومن دون دفع مستحقاتهم. وتقضي الخطّة بتغيير مكتب الموظف المستهدف، وتغيير فريق عمله، ومديره المباشر، مرة بعد مرة. ليقطع كلّ اتصال بالموظفين الذين يعرفهم. خطوة من شأنها أن تفقد الموظّف توازنه النفسي. وعبثاً يجهد الموظف لإعطاء أفضل ما عنده، وإظهار قدراته المهنية لمسؤوليه الجدد، لأن المطلوب واحد: الاستقالة غير المشروطة. ثم تبدأ عملية عزل الموظّف عزلاً تاماً، وتغييبه عن دورة العمل الطبيعية. تمهيداً للمرحلة الأخيرة، حين يتهرّب فيها مديره من التحدّث إليه، ويوجّه إليه أوامر عبر أشخاص من المفترض أن يؤتمروا به. ويتركه وحيداً بين جدران مكتبه الأربعة من دون مهمة عمل. فيبدأ الموظف يضرب أخماساً بأسداس، ويشكّك في قدراته. ويغوص في عزلته، فيتعاظم تصدّعه النفسي، واضطراباته العاطفية. وذات صباح، بينما يهمّ لدخول الشركة، يُفاجأ ببطاقة دخوله لا تعمل. يحاول أن يراجع المسؤول الأمني، فيتمحّص هذا الأخير بلائحة الأسماء ولا يجد اسمه. لا يعرف إلى من يلجأ. المدير الجديد لا يجيب على رقم مكتبه. هو على حافة الانهيار التام، فالانتحار. وروى المهندس «الناجي» كيف أن إدارة الشركة كانت وظّفته لتميّزه، وحاز على ثقة رؤسائه لتفانيه في العمل ساعات طويلة وفي أيام العطلات، حتى تلاشي حياته الشخصية. وكوفئ على تفانيه هذا، بتسلّمه منصب مدير استراتيجي في الشركة، قبل أن تبدأ حرب نفسية شعواء لإحراجه، وإخراجه. القضاء الفرنسي لا يزال ينظر في الدعوى التي أقامها الناجون من «مكيدة» فرانس تيليكوم، والنقابات العمالية الفرنسية تتوعّد. والسؤال هنا متعدد لعل أول وجوهه ما يتعلق بقدرة التلفزيون اليوم على أن يكشف عما كان مستوراً في الماضي.. إذ لولا ظهور الشخص المعني في برنامج أريديسون، لما أثار الموضوع كل هذه الضجة. ومن هنا يأتي وجه آخر للسؤال: متى تصبح شاشاتنا فعلاً برلماناً للشعب؟ ومتى تصبح قوانيننا العربية في صفّ الأفراد العزل؟ ومتى تتحمّل نقاباتنا العمالية مسؤولياتها كاملة، خصوصاً أن الكثير من المؤسسات العربية ليست بعيدة من «فرانس تيليكوم» في الأسلوب والمنهجية؟ فهل نحتاج انتحارات جماعية كي نتحرّك؟