خلال أشهر قليلة تحوَّل الشيخ أحمد الأسير إمام «مسجد بلال بن رباح» في عبرا المسيحية - الاسلامية قرب مدينة صيدا، من وضعية الداعية الإسلامي المحلي إلى تشكيل ظاهرة إعلامية تفيض سياسة وتلامس أكثر عناوينها الراهنة مركزيةً وتوتراً، من سلاح «حزب الله» إلى اسس «التعاقد» اللبناني انطلاقاً من العلاقات ونسبة القوى الطوائفية بشكلٍ رئيسي، مروراً بتقاطعات ممثليها مع الخارج الاقليمي الملتهب بمعرض الانتفاضة السورية ومجرياتها. وفي الوقت الذي كان فيه الشيخ وأعوانه ينصبون خيماً يزودونها بمستلزمات الاقامة الطويلة على مدخل صيدا الشرقي دلالة على فشل الوساطات والضغوط الكثيرة في ثنيه مؤقتاً على الأقل عن مواصلة «اعتصام الكرامة» ضد سلاح «حزب الله» كانت الأسئلة تتزايد حول توصيف ومستقبل الظاهرة. أسئلة تتدخل فيها بشكل أوبآخر تقاليد التأويل «المؤمراتي» المديدة، إذ تبدأ بتساؤل عمَّن هو هذا الشيخ ومن هم مُحرِّكوه: هل هو «المستقبل» الأكثر تمثيلية للسنة والمُراد إزاحته بصفته هذه أو «حزب الله» أو طرف إقليمي ما راعٍ للأول أو للثاني؟ ثم مجموعة أخرى من الأسئلة تنطلق من تعيين المستفيد من هذا التحرك وصولاً إلى حزمة أكثر تعقيداً من نوع هل أن الأخير جزء من مسارٍ يؤدي إلى تحقق صدام سني شيعي مسلَّح يفوق في شموله ووتيرته ودمويته كل الحروب اللبنانية والملبننة السابقة أم أنه على العكس من ذلك مسار يؤدي إلى إعادة التوازن بين طرفيْه بما يسهل تسوية دائمة؟ وهل أن تسوية افتراضية بهذا المعنى ستتم لمصلحة إعادة بناء الدولة أم لزيادة تهميشها خاصة وأنها ستكون في الوقت نفسه على حساب الموقع المسيحي وتُسرِّع انهياره «المُبَرمَج» في جينات الديموغرافيا اللبنانية والمحيط؟ قد تجد الاجوبة والفرضيات أياً كانت ما يدعمها من دلائل و «بَيِّنات» ولكن من دون الجزم بصحتها مما يعيد إدخالها في دائرة الأجوبة الجاهزة التي طورتها وجربتها الجماعات الأهلية لتصبح بدورها مادة استئناف لصراعاتها. ثمة ملاحظة أولية لا بد منها وهي «مهارة» الرجل في اختيار أمكنة وديكورات وفضاءات تحركاته الأخيرة من زاوية تثقيلها الإعلامي. فهو اعتصم مصطحباً المغني فضل شاكر في ساحة الشهداء ضد دموية وقمع النظام الأسدي في ذروة توتر وعنف ردود جماعته في بيروت وقعود حركة 14 آذار عن تنظيم أي استنكارٍ شعبي فيها. ثم اختار قطع طريق مرورٍ رئيسية إلى الجنوب ليعتصم مع مئات من أنصاره على حدود مثقلة بالرمزيات ومواد الشغل الأهلية: صيدا السنية التقليدية باب جبل عامل المتاخمة لحارة صيدا الشيعية ولقرى شرقها المسيحية ولمخيم عين الحلوة الأهم والأكثر اكتظاظاً سياسياً وأمنياً وأبعاداً إقليمية بين مخيمات اللجوء و «المقاومة» الفلسطينيين. إلاَّ أن ما يحاوله الشيخ أساساً يكمن في بناء شخصي لخطاب مضاد وموازٍ مذهبياً لخطاب «حزب الله» وأمينه العام. فالرجل الحسيني النسب والسني من والدة شيعية يخاطب السيد حسن نصر الله بالشيخ تشكيكاً، ليقول له ولرئيس مجلس النواب وحركة أمل «إما أن تتخليا عن السلاح أو أننا لن ندعكما تنامان في بيوتكما». لهجة تسعى إلى تفكيك الصورة الكاريزمية لقائد «حزب الله»، «لأننا لا نتعامل مع بشر بل نتعامل مع اناس يعتبرون انفسهم آلهة، الأمر الذي يُسبب إزعاجاً يعبر عنه موقع قريب من الثنائية الشيعية (يا صور) بالقول مُتهِّماً هازئاً «اسقط الشيخ أحمد إسم «الحسيني» من شهرته لينفي عنه اي شبهة « شيعية» لا سمح الله!!، واكتفى بلقب «الاسير» ويقال ايضاً انه لا يتقرب من والدته «لعلة شيعيتها». وفي إطار البناء الشخصي لخطابه يهتم الشيخ بتطبيع سلفيته لمعرفته بسلبية صورة تنظيماتها لبنانياً فيقول «أنا لست سلفياً، والسلفية هم إخواني، وهي ليست تهمة بنظري، ولست تابعاً لأي جهة أو حركة أو عمل إسلامي منظم، بل أقوم بواجبي الدعوي من منطلق الواجب الشرعي عليّ كإمام مسجد». ويتابع «ولا أوافق بعض الحركات السلفية التي تنتهج نهج سرعة التكفير أو سرعة التبديع، أو إقصاء الآخر». ويوحي تحقيق لجريدة «الأخبار» بابتعاد الشيخ وصحبه عن السلوكيات السلفية المعتادة تحت عنوان «اعتصام الاسير: شاورما وطرب وتجارة خليوي» (عدد29/06). وتصف صحف أخرى «حلقات دبكة وركوب دراجات هوائية وأحصنة، وللأطفال حصة وللجميع بزورات وضيافة متنوعة». وهو من جهة ثالثة يضع الدفاع عن السنة في لبنان وإدانة القمع في سورية ضمن الواجب الشرعي «منذ أحداث 7 أيار المعروفة (2008) بدأت أرفع الصوت، لأنني وجدت أن الظلم يكبر علينا في المنطقة». لكنه من جهة رابعة مع «لبنانيةٍ»ما تجعله يبتعد عن الطروحات الاسلاموية التقليدية في الخلافة والمجتمع ويضع قضية السلاح كقضية لبنانية عامة «كل المناطق اللبنانية موجوعة (من سطوة السلاح) من كسروان الى لاسا الى البقاع الى بيروت الى المختارة الى الجنوب». كما يُقِر باتفاق الطائف وبإمكان تعديل ثغراته». وفي تركيب خطابه يستعير الأسير شعار الكرامة الذي رفعه «الربيع العربي» جنباً إلى جنب مع الواجب الديني، «فسلاح حزب المقاومة سلب كرامتنا، ولن نستطيع بعد اليوم أن نعيش من دون كرامة، فديننا لا يقبل الخنوع والإهانة»، ويضيف: «اعتصامنا كإعتصام ميدان التحرير في مصر». تطرح استراتيجية الشيخ الجامعة بين شعبوية سلفية ملطفة و «سلمية» ومطالبة سياسية مذهبية وعمومية في آنٍ معاً إشكالات على قوى عديدة في مقدمها «حزب الله» والمجموعات السنية المتحالفة معه، ولكن أيضاً على قوى 14 آذار وبالأخص بينها «المستقبل». وقد تتطور إذا ما تمسك بمواصلة اعتصامه ووسَّع قطع الطرق في ظروف ازدياد التوتر الأمني والمذهبي والطائفي وتدخلات النظام السوري وتفلت وحشيته الدامية. فكما لو أن «الأسيرية» استدعِيَتْ من قعر تفتت الاجتماع اللبناني وعجزه عن بناء تسوية «تاريخية» لتملأ، وربّما لتؤثث، بعض مساحة الفراغ الذي يولَّده التفارق بين خطابات ومسالك القوى التي جرى التعارف على تمتعها بالنفوذ والقوة وبين الواقع المتغير والإدراكات المتعددة له من مختلف أطياف المجتمع اللبناني.