قد يكون الراهب باولو ديلو واحداً من أكثر السوريين انتماءً لوطن مشتهى اسمه سورية. فهذا الراهب من أصل إيطالي، اكتسب سوريته بالجهد والعرق والحب لهذ البلد والعمل الدؤوب لخدمته. ودير مارموسى الحبشي بالقرب من مدينة النبك، والذي أصبح محجاً لكل زوار سورية في العقود الماضية، هو خير دليل على الدور الذي لعبه هذا الراهب في ترميم هذا الدير المهجور العائد للقرن السادس الميلادي. كان طبيعياً أن ينحاز الأب باولو إلى الثورة السورية وكان طبيعياً أن يرفع الصوت عالياً وأن يمضي أسابيعه الأخيرة مع الثوار في مدينة القصير بالقرب من حمص ليحاول أن يصون العيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين. «الحياة» التقت الأب باولو في بيروت وأجرت معه هذا الحوار: هل فاجأك عنف النظام في مواجهة الثورة السورية؟ - صدقاً لم يفاجئني هذا العنف. أتذكر أن السفير الفرنسي أتى لزيارتي في الشهر الأول من عام 2011 في بدايات الربيع العربي وسألني عن رأيي في إمكانية وصول رياح التغيير إلى سورية، كان جوابي له: في حال حدوث شيء من هذا القبيل فإنه لن يكون قصيراً ولا سهلاً. وأتذكر أنني أعربت له عن مخاوفي من أن يسقط عشرات ألوف الضحايا وأن تتهدد وحدة البلد. اليوم كلي رجاء أن يتوقف هذا العنف قريباً، فلقد دفعنا ثمناً باهظاً وتقسيم البلد لا يريده أحد. لكن هذا الخطر قائم إذا استمر المجتمع الدولي في التنازل عن تحمل مسؤلياته. صحيح أن المجتمع السوري غني في التنوع وحسن الجوار والتعايش المشترك والاحترام المتبادل بين الناس، مع ذلك في حال دخل الناس في منطق الحرب الأهلية، فالكل يتطرف وسرعان ما يتجفف الوسط الثقافي والروحي والأخلاقي والأدبي الحامل التنوع، وينسحب باتجاه الأطراف. في المقابل، هل فاجأتك ثورة الشعب السوري وانضمامه إلى موجة التغيير التي اجتاحت العالم العربي؟ - هناك عنصر وحيد فاجأني في كل الربيع العربي، ألا وهو الشباب. هؤلاء الشباب فاجأوني بنضجهم السياسي والإنساني وفي استعدادهم للتضحية بحياتهم في سبيل استرداد كرامتهم وحقوقهم وفي سبيل قيم الأخوة والمساواة التي يؤمنون بها. أنا في حياتي كلها لم أتعلم عن كرامة الإنسان، بمثل ما تعلمت من الشباب السوري في السنة الأخيرة. عدا ذلك لم يفاجئني السوريون في تصميمهم على نيل حريتهم وإصرارهم على المقاومة، والسؤال هنا هل توقف السوريون فعلاً عن المقاومة خلال عمر الاستبداد المديد! حتى بعد الضربة القاسمة التي تلقاها المجتمع السوري بعد مجزرة حماة في عام 1982؟ لا لم تتوقف المقاومة وبقيت السجون ممتلئة بالأحرار والشرفاء، ناهيك عن الأشكال المتعددة من المقاومة المدنية بما فيها الكتابة والاستقلالية ونظافة الكف والمحافظة على القيم داخل البيوت والحفاظ على الدين الخالي من الفساد في مواجهة نظام فقد كل مبررات وجوده الأيديولوجية والأخلاقية وأصبح عبارة عن هيكلية من القمع واحتكار السلطة ونهب الأموال العامة. من أين يأتي هذا العنف وهذه الوحشية التي تنتهك كل الحرمات، بما فيها قتل الأبرياء والتمثيل بجثث الأطفال واغتصاب النساء؟ وما هي جذور هذا العنف الذي خلناه غريباً عن المجتمع السوري؟ - جذور هذا العنف هي في الديكتاتورية التي امتدت لأكثر من أربعين عاماً، ومنعت عنا تملك ثقافة حقوق الإنسان بمفهومها الحديث. صحيح أن أدياننا تمنعنا وتحمينا من ارتكاب مثل هكذا موبقات لكن، في أحيان كثيرة تصبح الأديان حجة لتأجيج الكراهية وتبرير العنف. في هذا السياق، لا فرق بين البوسنة وبين الصومال أو رواندا أو السودان. عندما تدخل الناس في صراع متخيلة أنه صراع على الأرض والوجود، يصبح قتل النساء والأطفال بمثابة استئصال الآخر من الأرض وإبعاده وطرده نهائياً، أو بعباره أخرى إبادته جماعياً. للآسف الشديد نحن اليوم في سورية في هذا الشيء، وللآسف الشديد لا أستغرب ذلك وللآسف الشديد كنت متوقعاً إياه. وهذا ليس بشيء جديد في تاريخ البشرية، وعلينا جميعاً أن نتبرأ من هكذا أفعال تنبع من إنسانية قبيحة ومنحطة، هي أقرب إلى التوحش منها إلى الإنسانية. لكن هذه الغرائز وهذه الكراهية، هل يمكنها أن تفسر كيف يمكن هذا القاتل أو الشبيح أن ينظر في عيني ضحيته وأن يمسك بلحمها الطري بكلتا يديه قبل أن يهم بذبحها بحد السكين؟ - ألم تنتبه كيف أن عندما يريد إنسان أن يضرب إنساناً آخر، فإن أول ما يفعله هو أن يجرده من إنسانيته بإطلاق شتائم بحقه من مثل «يا حيوان» أو «يا كلب». المفجع أن الكلاب عندما تتقاتل فيما بينها، فإنها لا تصل إلى درجة الوحشية التي يمكن إنساناً أن يستخدمها ضد أخيه الإنسان، كون الكلاب تعي أنها من الفصيلة ذاتها، أما الإنسان فإنه يخرج أخاه الإنسان من فصيلة البشر، ويجعل منه في مخيلته حيواناً أو حشرة، حتى يبرر لنفسه أن يدعسه أو يقتله أو يبيده! من هنا، أنا لا أستطيع أن أتفاجأ بما يحدث الآن في سورية، ولكنني أتآسف وأحزن وأتألم. نعم لا أتفاجأ، لأنني رأيته آتياً وحذرت وكتبت. وأنا اليوم كسوري من أصل إيطالي، أقول للسوريين أجمعين، موالين ومعارضين، لسنا بأحسن من الإيطاليين أو الإسبان أو الألمان، كي لا يبيد بعضنا بعضاً، ومن هنا أهمية أن نشتغل على أنفسنا وأن نسترد إنسانيتنا لتجنيب سورية ويلات الحرب الأهلية التي عاشتها الكثير من بلدان العالم. قد نكون كلنا في الهم شرقاً لكن، ألا تعتقد أننا لا نستطيع أن نضع النظام ومؤيديه وشبيحته في المنزلة ذاتها مع الثورة ومؤيديها؟ طبعاً هذا لا يعني أن الثوار جميعهم ملائكة، لكن التفوق الأخلاقي هو بالتأكيد في مصلحتهم. ما رأيك؟ - هذا السؤال مهم وأقرّ أن في كلامك الكثير من الصواب، لكن دعني أوضح بعض الأمور. هذا النظام الاستبدادي عاش منذ البداية على الكذب وعاش على ممارسة أنماط العنف والتعذيب كافة والتشويه والكراهية وتجريد الناس من إنسانيتهم، كجزء لا يتجزأ من منظومة السلطة وممارساتها. ونتج من هذا تكاذب جماعي وعبادة للفرد وتقديس لرموزالسلطة. من هنا، أصبح الكذب والتكاذب جزءاً من الممارسات الشائعة والضرورية التي يتواطأ عليها ويرتكبها الكثير من الناس العاديين ومن المؤيدين، بمن فيهم كثرٌ من رجال الدين من الطوائف كافة. ونتج من هذا ولادة إنسان مزدوج، يختلف بين الصورة التي يراها في مرآته داخل بيته والصورة التي يمارسها في الخارج ويقدمها للآخرين. في المقلب الآخر، مقلب الثورة، هناك أناس يريدون الشفافية والانعتاق من الكذب والعمل على استعادة الحقوق المشروعة. أناس يكتشفون من جديد فرح التدين الذي تتطابق فيه النظرية مع الشيء المعاش على أرض الواقع. جاءني ذات مرة شباب مسلمون يريدون أن يتطوعوا في الجيش الحر وقالوا لي: وصينا أبونا؟ وهؤلاء المسلمون ينادونني تحبباً «أبونا»، فقلت لهم: يا شباب حافظوا على كرامة عدوكم. وقلت الشيء ذاته لضابط استخبارات فتح لي ذات يوم قلبه. إذا استطعنا المحافظة على هذا الشيء وتعميمه، فيمكنه أن يحمينا من الوقوع في شرك الممارسات اللاإنسانيه والتشبه بعدونا. وهناك شغل مضنٍ في هذا المجال لصيانة كرامة جسد الإنسان وحرمته، حتى لو كان عدوك الذي ظلمك وعذبك واستباحك. فعندما تسمح لنفسك بتشويه كرامة عدوك (الذي تنازل عنها وشوهها بنفسه) فأنت تشوه كرامتك وتتنازل عنها. وسورية الجديدة يجب أن تبنى على هذا الأساس ويجب أن ترسخ فيها ثقافة حقوق الإنسان الحديثة التي لا تسمح بمس الأسير أو المعتقل وتعذيبه، مهما كانت الجرائم المتهم بها. وكم كان مهماً ومؤثراً ما قاله لي أطباء المستشفى الميداني في مدينة القصير، من أنهم لا يخونون قسمهم الطبي ولا يفرقون بين الجرحى، بل يقدمون لهم كل الإسعافات الضرورية، سواء كانوا من الجيش الحر أو من الجيش النظامي أو كانوا أسرى لدى الثوار. هذا هو الموقف الأخلاقي والإنساني الصحيح، أما الموقف المدان فهو ذاك الذي يقصف المستشفيات الميدانية ولا يتوانى عن قتل الأطباء والممرضات والجرحى أو جرهم إلى غرف التعذيب. هنا الفرق وهنا تفوق الثورة الأخلاقي، فلننتبه لنحافظ على هذا الفرق ونصونه. وكرامة الوطن في النهاية تأتي من قدرة الذي ينتصر بالقيم على أن يتقاسمها ويعممها على جميع أبناء الوطن، بمن فيهم المغرر بهم من قبل النظام. وحتى تكتمل الصورة، أحب أن أشير إلى أن في داخل الثورة مجموعات تسيء إليها وتستفيد منها، أكثر بكثير مما تفيدها. هناك مجموعات سرية متطرفة دينياً، ومع كل احترامي لمعتقداتها ولدوافعها، لكن المجموعات السرية المتطرفة والمنغلقة على نفسها هي سرطان للثورة، سرطان للقضية، وعلينا جميعاً أن نجفف مستنقعات السرية والتطرف التي تقتات منها وأن نستردها إلى الحراك الثوري الحقيقي. فهذه الفئات هي المبرر الأعظم للأقليات حتى تصطف مع النظام، وهي المبرر الأكبر للعالم الغربي حتى يتركنا سنة أخرى نواجه أخطار الحرب الأهلية. وفي النهاية الثورة التي لا تضبط نفسها، هي ثورة خاسرة اليوم وغداً. هناك نظام يتعامل مع شعبه بمنطق الحرب الأهلية لكن، ألا تعتقد أن هناك مقاومة لمنطق الانجرار إلى الحرب الأهلية؟ - في سورية هناك ثورة. والجديد فيها، كما هي الحال في كل ثورات الربيع العربي، هو ثورة الشباب وهذا هو الشيء الذي لم يفهمه الدكتور بشار الأسد ولا الرئيس بوتين ولا الرئيس أحمدي نجاد، الذين لا هم لهم سوى الاحتفاظ بالسلطة مستخدمين مبررات من مثل الممانعة أو المقاومة أو حتى المصالح القومية لروسيا الاتحادية. نعم، في سورية ثورة وأنا اقرّ بهذا ومن حق الشعب السوري أن يقوم بهذه الثورة لكن، هناك بالتوازي مع هذا، حرب أهلية كون النظام استطاع على مدى سنين طويلة أن يجمع حوله فئات من المجتمع. وبصرف النظر كيف نجح في جمع هذه الفئات، بالمخاوف أو بالأوهام أو بالمصالح أو بالتهديد، فإن هذا الجزء من المجتمع حول السلطة وحول آل الأسد مستعد أن يحارب من أجلهم. وللآسف حتى جغرافياً، فإن جزءاً مهماً من هذه الفئات متجمع في مناطق بعينها، حيث بوادر الحرب الأهلية وقسوة القمع ماثلة للجميع في مناطق الاحتكاك التي أسميها المناطق الشهيدة وهي الواقعة على أضلع المربع الممتد بين نهر العاصي ومدن الساحل السوري، وهذا هو نطاق الحرب الأهلية. أريد أن أسألك رأيك بفئة أخرى من المجتمع، لم تقتل وهي غير مستعدة أبداً أن تقتل، لكنها في الوقت ذاته تستمر في تأييد النظام وتتعامى عن عنفه وترفض في شكل عصابي أن تصدق أو تقر بانتهاكات النظام؟ - هذه للآسف آلية قديمة ومعروفة. أنا سمعت شخصياً بأذني هاتين، سيدات من المجتمع المخملي، وهنّ من أنظف الناس وأكثرهم أناقة وثقافة، يقلن بكل راحة ضمير: «معليش سورية من دون مليون أو مليونين زيادة، خلينا نخفف شوي من هذه الزبالة. شو المشكلة». إنه البغض الذي يجد سبيله إلى القلب والخوف الذي يعمي البصيرة. هؤلاء الناس هم من طينة السكان البولونيين والألمان الذين عاشوا حياة طبيعية حول معسكرات الإبادة النازية، يمارسون حياتهم الاعتيادية ويزرعون أراضيهم ويرسلون أولادهم إلى المدارس ويتظاهرون بأنهم لا يعرفون وهم في العمق يعرفون ماذا يجري في جوارهم من جرائم ضد الإنسانية. هناك أناس يعرفون في العمق أن هذا النظام قائم على القمع والقتل والخوف، لكنهم يتعامون عن كل هذا ولا ينفكون يرددون أن هذا النظام يحمينا وأنه في حال سقوط النظام ستنفلت الوحشية وستفقد الإنسانية، مع أنهم يعلمون علم اليقين أن الوحشية هي تلك التي تمارس في زنازين النظام وأن الإنسانية هي التي تستباح في معتقلاته. على رغم الدور المهم الذي يلعبه الكثير من الناشطات والناشطين السوريين من أبناء الطائفة المسيحية في صفوف الثورة، فإن هناك حالة جفاء طبعت علاقة الكثير من أبناء الطائفة المسيحية بالثورة، ماذا تقول للخائفين أو المترددين منهم؟ - دعنا نقل أولاً إن السجون جمعت كل أطياف الشعب السوري، وألوانه وهذا الشعب يعرف بالعمق أن جميع مكوناته دفعت ثمناً باهظاً في سبيل نيل حريتها. مع ذلك كل ما أريد أن أقوله للمترددين: هو أن المتأخر أحسن من الغائب، فهلم نلحق بالصحيح. وهلم نهتم بالضحايا وهلم نستقبل النازحين وهلم نرعَ المحتاجين وهلم نرحم اليتامى. أقول لمن يشعر منهم بأن هذه الثورة ليست ثورته، لا بأس ولكن، لتكن حيادياً ولتمارس ما يقوله دينك: طوبى للفقير وطوبى للذي يبحث عن السلام وطوبى للذي يُضطهد في سبيل البر. ماذا تقول للخائفين والساكتين من أبناء الشعب السوري كافة؟ - أقول إن الخوف يمكن أن يجعلك متآمراً مع النظام ويمكن أن يجعلك جزءاً لا يتجزأ من النظام ويمكن أن يجعلك مجرم حرب. وبالتالي فلا يتخيل أحد أن خوفه، يمكن أن يجعل منه بريئاً. في الوقت ذاته أقول للمعارضة كلها وللثورة، ماذا قدمنا من ضمانات سياسية؟ ماذا قدمنا من ضمانات قانونية؟ ماذا قدمنا من ضمانات لحماية الخصوصيات الدينية والمحلية والقومية؟ نحن لا نريد أن نصعد إلى القرداحة بصيحة «الله أكبر». هذه ليست ثورتنا وهذا ما لا نريده. المجرم سيوقفه العلويون أنفسهم وسيقدمونه للمحاكم الدولية. هذا ما نريد وهذا ما نسعى له، وبمثل هذا ستنتصر الثورة. السؤال هو هل نحن نريد أن ننتصر أم نريد أن نخسر أنفسنا؟ إذا لم تعطِ عدوك مخارج مقنعة وإذا فرضت عليه المعركة كمعركة حياة أو موت، فإنه سيقاتل حتى النهاية ومن دون ضوابط. في كل الأديان، بما فيها الإسلام، ليس هناك أقوى من الانتقام، سوى المصالحة. وليس هناك أقوى من الثائر، سوى الغفران. نحن نريد هذا الوطن بكل مكوناته وبكل قراه وبكل مدنه وبكل شعبه. بالنسبة لي الإنسان العلوي المتماهي مع السلطة مظلوم أكثر من غيره لأنه منخور في كرامته وقيمه وقلبه، ولأنه مسخر ومستعمل لهذا الاستبداد المشين. في النهاية هذا الإنسان العلوي أو الإنسان المسيحي هو مواطن نريد أن نطمئنه ونقنعه بأننا نريده ونشتهيه بيننا مواطناً حراً في وطن واحد. ماذا يمكن أن تقدم الثورة من ضمانات إضافية؟ - دعني أقلها بصراحة للمسلمين، نحن المسيحيين لا نخاف منكم. نحن المسيحيين، حتى لو لم يعجب هذا الكلام البعض، أمانة في أعناقكم، وإذا لم يحترم المسلم الأمانة التي سلمه إياها الرسول محمد، وقام بظلمنا وطردنا، فأنتم أيها المسلمون سيذبح بعضكم بعضاً في حروب أهلية ستمتد إلى يوم الدين. المشكلة اليوم ليست بين المسلمين والمسحيين. المشكلة اليوم هي بين المسلمين أنفسهم، وهي تتجاوز سورية نفسها، التي أصبحت فصلاً في كتاب يخص الصراع السنّي - الشيعي في المنطقة كلها. نحن في سورية خلقنا لنعيش مع بعضنا بعضاً. التاريخ يطلب هذا. الجغرافيا تطلب هذا. اللغة تطلب هذا. ومن أجل أن نعيش سوياً علينا بالمصالحة. لكن المصالحة لها شروط، أساسها أن تعود الحقوق لأصحابها. هناك مجرمون يجب أن يحاكموا. هناك يتامى يحتاجون إلى تعويض، هناك بيوت دمرت ويجب إعادة بنائها، هناك أثاث سرق من بيوت وحارات مدينة حمص وبيع بأبخس الأثمان، يجب أن يعاد لأصحابه. ماذا يمكن أن تقول لبشار الأسد شخصياً؟ - يا ليته يسمع ما قاله له الرئيس التونسي بأن يتنحى ويرحل وليرحم نفسه ويرحمنا. العدل يمكنه أن ينتظر قليلاً، ولكن ليرحل وليوفر على هذا البلد وهذا الشعب المزيد من العذاب. أقول له: إنني متأسف جداً على كل الفرص التي وضعها السوريون بين يديك ولم تحسن استغلالها. أنا شخصياً بعثت لك أكثر من عشر رسائل في السنين الماضية، لكنني لم أنجح في فتح ثغرة في جدار الانغلاق والتحصن والتشبث بالسلطة. أكيد هناك مسؤولية شخصية ولكن أنت برأيي ضحية قدرك التعيس وضحية هذا النظام الذي أورثك إياه والدك. أنا جد متآسف وأتمنى أن أستطيع مساعدتك، وواجبي الإنساني أن أمد يد المساعدة، إذا كان هناك من سبيل. ما هي أصعب الأوقات التي عشتها داخل سورية خلال الثورة؟ - أصعب اللحظات كانت لحظات الانفجارات الكبيرة في دمشق، أحسست بأن قوى الشر شنت الحرب على الشعب السوري وأن الكذب وصل إلى النخاع الشوكي، وأن التأمر والسينيكية في مستنقع المافيات والاستخبارات يقدمان لنا أبشع ثمارهما. صحيح أن هناك فئات دينية متطرفة، لكنها مسخرة. كانت مسخرة على يد «سي آي أي» في أفغانستان ومن ثم سخرت على يد غيرهم في العراق، واستخدمت بالريموت كونترول في لبنان، فلا جديد على الشاشة. أنا كتبت رسالة مفتوحه إلى كوفي أنان، أقول له فيها: إذا كان سكرتير الأممالمتحدة بان كي مون يقول إنه صار واضحاً أن هناك «القاعدة»، فهل أنتم بالأممالمتحدة إلى هذه الدرجة جهال! ألا تعرفون في الأممالمتحدة أن هذه الفئات المتطرفة تستخدم وتسخر، ليس فقط من قبل المستنقع الاستخباراتي السوري ولكن، أيضاً من قبل المستنقع الاستخباراتي الدولي. كيف تفسر غياب التضامن الفعال مع الثورة السورية من قبل منظمات المجتمع المدني في الغرب ومن قبل الكنائس والنقابات وأهل الثقافه والفن؟ - السبب الأول هو التخويف من الفزاعة الإسلامية. فقد نجح هذا التخويف في تثبيط مشاعر التضامن في صفوف شرائح المجتمعات الغربية. هذا ناهيك عن الإشباع الإعلامي الذي يبطل أهمية المأساة السورية وأولويتها ويجعلها خبراً من بين بقية الأخبار في نشرات الأخبار. دير مارموسى هذا المكان المتربع في جبال القلمون على بوابة الصحراء، بمقدار ارتباطه بالأرض والتاريخ، صار منذ أن سكنته ورممته وأحييته، شديد الارتباط بشخصك واسمك. كيف هو شعورك وأنت مبعد اليوم قسراً عن هذا المكان، وهل سيكون هذا الدير يوماً هو منتهاك؟ - شعور بألم شديد، لا يمكن وصفه. لقد قلت سابقاً: ما أحلى الموت في سورية، على الخروج إلى المنفى. أنا خرجت اليوم إلى المنفى لأذوق ما تذوقه آلاف وآلاف من السوريين منذ عشرات السنين، وطعم المنفى حقيقة مرّ. عندما وضعوا ما سموه دستورهم الجديد، كتبوا فيه أن رئيس الجمهورية يجب أن لا يكون مقيماً خارج سورية. قلت في نفسي عماذا يتكلمون! فكل الذين هجروا ورُموا في المنافي وظلموا، لا قيمة لآلامهم وعذاباتهم، والدستورالجديد يشكك بصدق انتمائهم للوطن. أما أين هو منتهاي؟ فأنني أذكر أن في ذكرى الجمعة العظيمة العام الماضي خرجنا من الدير إلى الوادي باتجاه مقبرة الرهبان بالقرب من صخرة ضخمة. هناك لاحظت مكاناً ضيقاً، بطولي تقريباً، يمتد بين شق صخري وبين شجرة زيتون زرعها أحد الرهبان ونمت بين الصخور، فقلت للجماعه: إذا أراد الله وترحم عليّ، فهنا مثواي. إن شاء الله أن يستجيب لهذه الأمنية. برأيك هل مصير هذه الثورة النجاح في النهاية؟ - هذا ليس رأيي، هذا رأي الحق. هذه الثورة، الله قدّرها للنجاح، لأن ما دفع لها من ثمن مقدر عند الله، وما ذهب من ضحايا أبرياء هو فوق كل ما يمكن أن يبذل. والله لا يضيع عذابات اليتامى والأرامل ولا يفرط بتضحيات الأهالي.