خلال الربع الثاني من القرن التاسع عشر، سادت في الفن التشكيلي الفرنسي، تلك النزعة الرومانسية التي كانت في بعض الأحيان، وعلى أيدي بعض كبار الفنانين الرائجين شعبياً، تتّسم ببطولة ورثت من مآثر الثورة الفرنسية ومن التحركات الشعبية التي كانت لا تفتأ تهز البلاد وتصنع الأحداث تباعاً. وكانت الصالونات تتبع تلك النزعات. وحتى حين كانت هذه النزعات تخبو، كانت الرومانسية تواصل طريقها متّخذة في تلك الأحايين سمات استشراقية أو غرائبية كأنما تبتغي من خلالها احتجاجاً على عدم مواصلة النزعات البطولية طريقها. غير ان تضافر الأحداث عند منعطفات الأزمان الجديدة، وبدء سأم الجمهور من مواضيع بطولية أو رومانسية أو استشراقية بات يراها بعيدة من اهتمامه، ناهيك بصعود النزعات الاشتراكية واستشراء الصحافة التي بدأت تهتم بالرسوم قدر اهتمامها بالكلام، كل هذا كان لا بد له من ان يحدث، في نهاية المطاف، تبديلاً أساسياً في توجهات الفنانين التشكيليين. وهكذا ما إن أطل العقدان الثالث والرابع من ذلك القرن، وبدأت الإشكالات السياسية تلوح محيّرة حيناً، واضحة حيناً، واعدة في شكل عام في معظم الأحيان وحتى حين كانت تبدو لبعض الناس قاسية، حتى بات لا بد من ان انعطافة جذرية وتحديداً من النزعة الرومانسية الى تلك الواقعية. وحتى إن لم تكن تلك الانعطافة في ذلك الحين وقفاً على الفن الفرنسي، حيث نرصدها في بريطانيا كما في ألمانيا (وإن بدت هنا متأخرة بعض الشيء)، فإنها في فرنسا بدت أكثر وضوحاً وحضوراً، وذلك عبر ثلاثة من الفنانين أسسوا لها كل على طريقته: ميلييه، كوربيه ودومييه. وميلييه، في شكل خاص، الذي كان ينتمي الى التيار الذي عرف ب «مدرسة باربيزون»، كان زعيم الثلاثة وخير ممثل لتلك الواقعية الجديدة، التي اذ ساندها الأدباء والمفكرون والنقاد بصفتها تعبيراً عن صعود المجتمعات الجديدة، بدت هي في تعارض تام مع النزعة الاكاديمية الرسمية (دافيد وأضرابه) ومع الرومانسية التي كان ثمة من النقاد في ذلك الحين من بات لا يتورّع عن وصفها بالرومانسية «الهابطة» (ديلاكروا). ولئن اتجه ميلييه بسرعة الى الريف ليصوّر مختلف مناحي حياة الفلاحين الكادحين، ولئن كان كوربيه قد تبدى اكثر الثلاثة حذقاً وهجومية في اعمال له راحت غالباً ما تثير حفيظة القيّمين على الأخلاق العامة ولا سيما منها لوحته الأشهر «اصل العالم»، فإن دومييه سرعان ما تكشّف عن كونه اكثرهم ارتباطاً بالواقع اليومي، لا سيما في المدينة. وأيضاً ليس من خلال اللوحة التي لم تكن همه الرئيس، ولا كان مهتماً بأن يرسمها كي تعلق على جدران منازل «البورجوازيين الصغار التافهين» الذين لا يمكنهم ان يقدّروا قيمتها، وفق رأيه، بل من خلال الرسم الصحافي، والملصق والكاريكاتور وما الى ذلك من وسائط ستتخذ لاحقاً في القرن العشرين كل أبعادها، ولا سيما من جرّاء وصولها الى العدد الأكبر من الناس غبر وجودها في وسائل الإعلام، او مطبوعة على اسطمبات وملصقات. تمكّن دومييه من ان يعبّر في رسومه ولوحاته، عن حياة الناس العاديين غالباً، مضيفاً احياناً على مشاهده طابعاً «هيبر واقعياً» - اي مغرقاً في واقعيته - ، وأحياناً طابعاً كاريكاتورياً صرفاً. غير ان النزعة الكاريكاتورية لديه لم تكن لتتوخى الإضحاك أو السخرية (إلا حين كانت مواضيع رسومه تتجاوز رسم الناس العاديين الطيبين البسطاء، ليسخر من علية القوم، وحتى من سادتهم الكبار). وهكذا، اذا تأملنا مثلاً لوحة دومييه «عربة الدرجة الثالثة» المعروضة الآن في متحف «متروبوليتان» في نيويورك وقارناها بلوحة رسمها دومييه في العام 1831 للويس فيليب تحت سمات «غارغانتوا» رابليه، سوف ندرك بسرعة فحوى اختيارات هذا الفنان الذي لن يكون من المبالغة القول انه، أعاد اختراع وظيفة الفن، من جديد، نافياً عن لوحة الصالون أهميتها التي كانت لها. ولعل الرسوم التي حققها دومييه، لمشاهد منتزعة من مسرحيات متنوعة وبين كواليس المسارح، تعتبر من أهم ما حقّق، ومع هذا فإن رسومه التي حققها انطلاقاً من رواية «دون كيشوت» للاسباني ثربانتس، والتي أتى تحقيقها في مرحلة متأخرة بعض الشيء من حياته، اي بين العامين 1860 و1870، يمكن اعتبارها من أهم أعماله. ففيها، اكثر مما في اي اعمال أخرى له، عرف دومييه، ووفق تعبير الباحثين، كيف يعلن «ولادة الفجر الجديد» في الفن الاسباني، ذلك انه لم يبشر فقط بولادة «التعبيرية المستقبلية» بل ايضاً بولادة «كل فن يبحث، خارج اطار المشهد الذي يصور الأحياء، وفي الهزل والملحمة، عن التعبير الوافي عن ضروب غضب الانسان وآماله، وعن صراخ الانسان وتطلعاته الاكثر عمقاً وعن التأكيد الشغوف ليس فقط على حضوره في هذا العالم، بل على مساهمته في تغيير هذا العالم» وفق نص للراحل حديثاً، روجيه غارودي كتبه يوم كان لا يزال يهتم بالفنون ودورها في مصير الانسان. حقق دومييه عدداً من اللوحات «الدونكيشوتية»: صوّر الفارس المغوار مفتتح أزمان الانسان الجديد، دائماً في الصحراء يخبّ على حصانه، وحيداً حتى وإن كان في رفقته سانشو بانشا. ولكن دائماً وهو يبحث عن أفقه ويبدو شبه واثق من انه سيجده في نهاية الطريق لا محالة. وبهذا من الواضح انه لا يمكن اعتبار دومييه، في ما رسمه لدون كيشوت، مجرد رسام يعكس الواقع او ما يريده من هذا الواقع، بل فنان يريد من لوحته ان تكون فاعلة في حركية المجتمع. وهذا ما لاحظه كارل ماركس في كتابه «العائلة المقدسة» حين أثنى ثناء كبيراً على دومييه كما على بلزاك اللذين «عرفا كيف، بنزولهما الى ارض الحياة الواقعية، يمجدان البطولة والتضحية الفاعلتين» واصلين في هذا «الى انجاز مهمة كل فن كبير، رافعين الواقعي والممكن الى مستوى الاسطورة». وفي هذا الاطار يستوي دون كيشوت دومييه مع منظفة الثياب، مع ركاب الدرجة الثالثة في القطار (وهم جميعاً شكّلوا بين آخرين مواضيع رسوم الفنان)، حيث تصبح مهمة هذا الفنان ان يعيش «بما فيه الكفاية لكي يعرف آمال الجماعة ويمجدها». ولم يكن حديث كارل ماركس هذا عن دومييه، مبالغة، ذلك ان دومييه نفسه كان يرى ان تلك هي وظيفة فنه، هو الذي حوّل الرومانسية الى واقعية، معيداً الاعتبار الى المواضيع المستعارة من الواقع البسيط للحياة اليومية. ومن الواضح هنا ان فن دومييه أتى يجسد كل تلك الآمال التي وضعها الفنانون الفرنسيون والناس البسطاء، ايضاً، في ثورة العام 1848. ذلك ان دومييه كان، والى حد كبير، ابن تلك الثورة وواحداً من كبار المعبّرين عنها. وهو كان في الاربعين حين اندلعت. ولد أونوريه دومييه في مرسيليا العام 1808 لأب كان رساماً زجّاجاً. في العام 1816 انتقلت عائلته لتستقر في باريس. فعمل الفتى أول الأمر صبي مكتب، ثم بائع كتب. ومع هذا كان الرسم شغفه الاول والاخير. وهو حقق حلمه في العام 1822 حين التحق طالب رسم في الاكاديمية السويسرية. وفي العام 1825 التحق في عمل لطباعة الملصقات. وفي الوقت نفسه بدأ يرسم رسوماً كاريكاتورية للمجلات والصحف الاشتراكية، ما جعله عرضة للقمع وأوصله الى السجن في العام 1831 بعد ان رسم رسماً سخر فيه من لويس فيليب. خرج من السجن في العام 1833. وبعد عامين حظرت السلطات الصحف السياسية المعارضة، ما دفع بدومييه الى التوقف عن الرسم السياسي لينصرف الى رسم لوحات وملصقات اجتماعية تهاجم البورجوازية وسلوكها ساخرة منها. وخلال السنوات العشر التالية ابتكر، في رسومه، شخصية روبير ماكير مستخدماً اياها للسخرية من المجتمع بعنف. إثر ثورة 1848، التي اشترك فيها دومييه، حلت فترة من الليبرالية الفنية كانت ذات تأثير كبير في فنه، ولكن لويس - نابليون بونابرت سرعان ما عاد الى الحكم وقمع الفنانين الليبراليين، ومن بينهم دومييه. وبعد تلك الهزيمة، حتى وإن حافظ هذا الفنان على نزعته الثورية، انصرف الى رسم اللوحات والى النحت مواصلاً فضحه مساوئ المجتمع المعاصر معبّراً عن ايمانه بالأزمان الجديدة. وظل ذلك دأبه حتى رحيله في العام 1879. [email protected]