ماذا لو نطقت الجدران؟ ماذا لو أخرجت حجارتها صوراً عن ذكرياتها: عن الأحياء التي زالت كي تحلّ هي محلّها، بل عما كانته المدينة قبل أن تصبح المباني الشاهقة مشهدها ومُكوّنها ووجودها ومحل سكن أهليها؟ كيف يمكن استخراج صور «ذاكرة» الجدران الصلبة للأبراج وناطحات السحاب التي تصنع سنغافورة الحديثة؟ فكّر المُصوّر الهولندي مارسيل هاينن بهذه الأسئلة وما يشابهها. وقرّر أن يجعل الإجابة عنها مساراً لحياته المهنية. تستطيع الكاميرا أن تلتقط صور الجدران والمباني بسهولة، لكن كيف السبيل لاستحضار الماضي، بل ما هي الطريقة التي تُمكّن من دمج «ذاكرة» الجدران بحاضرها؟ جاء الحلّ إلى عدسته بالصدفة. وأثناء زيارة لباريس في 2009، التقط صورة لمبنى باريسي حديث، من نافذته، بل عبر زجاج النافذة حيث تناثرت نقاط مطر وظلال مباني الحيّ المجاور. زاد في قوة هذه المصادفة أن الحي المجاور للمبنى لم يكن سوى جزء من الحي القديم الذي شرع في التراجع والتآكل أمام زحف المباني الحديثة، بل أمام ثراءها أيضاً. وهكذا جاءت صورة غرائبية: مبنى حديث معدّ لشرائح اجتماعية تمسك بالثروات، لكنه مُظلل ببقايا الحيّ القديم، الأكثر فقراً، والآخذ بالتلاشي أمام زحف المباني الحديثة. حفز الثراء البصري لهذه الصورة هاينن على تكرار التجربة، مع صنع أداة تمكنّه من الحصول على ظلال الأحياء التي تتلاشى (وهي تعريفاً جزء من الماضي أيضاً)، أمام زحف العمران الأشد حداثة وثراء. تمثّلت تلك الأداة بمستطيل خشبي له شكل النافذة، مغطى بزجاج سميك يمكن الرؤية عبره، وإن بنوع من الضبابية، ولكنه يعكس أيضاً ما هو موجود على الناحية المعاكسة لمسار النظر. وركز هاينن عمله على المدن التي تشهد ظاهرة التداخل بين عمران حديث وثري، وأحياء قديمة تزول حاملة همومها أمام هذا العمران. وأحياناً، يضع مُكوّنات من الأحياء القديمة في إحدى جهتي «نافذته» (مثل الخزانات الخشبية المتآكلة ورفوف المطبخ الخشبية المتهالكة)، ويصور المباني الشاهقة على الناحية الأخرى، مع ظهور انعكاس تلك المُكوّنات على صور هذه المباني. وبسبب حبّه للقارة الآسيوية التي اختارها مقراً له، دارت عدسته على جدران المباني في المدن الكبرى لآسيا، خصوصاً تلك التي تشهد مفارقات طبقية قوية. وأطلق على صوره اسم «بقايا» Residue. بقايا ماذا بالضبط؟ لننظر إلى هذا الخليط العجائبي كرّة أخرى. تأتي العولمة من الغرب إلى العالم الثالث بأنماط جديدة من العمران، بالأحرى أنها تكتسح دول هذا العالم وشعوبه وذاكرته ومعطياته، وكأنها تجتاح أرضاً بكراً . لكن الأمور ليست كذلك أبداً. ثمة مجتمعات في تلك الدول لديها الكثير من المعطيات الكثيفة في الاجتماع والثقافة. ما زالت الصورة بحاجة إلى مزيد من التعقيد كي تصف فعل العولمة. يكفي تذكّر أن هذه الموجة من العولمة ليست الأولى. سبق للعالم الثالث أن استقبل عولمات متفاوتة الأثر، تأتي دوماً من الغرب منذ عهد الاكتشافات البحرية الكبرى. في المقابل، ليست دول العالم الثالث شيئاً خالياً ولا جنة تسكنها ملائكة. تضجّ تلك الجغرافيا بتناقضات داخلية ضخمة. ودوماً تفاعلت كل موجة من العولمة مع مزيج من تفجر التناقضات الداخلية لمجتمعات العالم الثالث وتفاعلها مع الموجة التي سبقتها من العولمة. وهكذا، تلتقط عدسة هاينن تفاعل الموجة الراهنة من العولمة، التي أطلقتها أميركا في الهزيع الأخير من القرن الماضي مع الآثار المتراكمة من تفاعل مجتمعات دول العالم الثالث وعمرانها مع العولمات السابقة. يزيد تشابك الصور أنها عدسة غربية، بمعنى أنها آتية من قلب العولمة الراهنة. ولمزيد من التشابك، يحتفظ هاينن بمسافة مع العولمة المنفلتة والمتوحشة، إذ يسعى إلى تبيان ما تتركه آثار اكتساحها المنفلت على مجتمعات عانت دوماً من تفاعل متشابك لتناقضاتها الداخلية مع العولمات المتتالية. بقول آخر، تخاطب عدسة هاينن مباني العولمة المنفلتة، عبر عين تسعى إلى عولمة بديلة تكون أكثر عدالة وإنصافاً، وبالتالي أكثر مراعاة لمعطيات المجتمعات العالمثالثية مع العولمة المتوحشة الراهنة. ليس أمراً سهلاً أن تحاول كاميرا «إنطاق» الجدران وذاكرتها وخيالاتها وتشابكاتها. وبهذه الحساسية الفكرية الهائلة الاتساع، استطاع هاينن إقامة غير معرض لصوره في أوروبا، قبل أن ينتقل بمعارضه إلى آسيا. وأخيراً، استضافت سنغافورة معرض «بقايا 2»، الذي ضمّ ثلاثين صورة لمدن مثل هونغ كونغ وجاكرتا وسنغافورة وفيزهو (في الصين). وفي تصريح إلى مجلة «تايم آوت سنغابور» timeoutsigapore، وصف هاينن صوره بأنها عمل بصري عن العمران الحضري المعاصر وآثاره، خصوصاً لجهة التفاوتات الطبقية التي تتصارع في دواخله.