لا يزال الأمير سلمان بن عبدالعزيز يتلقى البيعة والتهاني من داخل المملكة وخارجها، ولا يزال الجميع يتسابقون للتعبير عن ولائهم وابتهاجهم... يصل سلمان بن عبدالعزيز إلى ولاية العهد وقد تراكمت لديه خبرات ومعارف شتى، ولكننا نجزم بأن أعلاها وأعمقها خبراته وحنكته الإدارية غير المسبوقة. كما يصل إلى هذا المنصب وأمامه ملفات كثيرة وكبيرة مختلفة ومعقدة ومتداخلة، كثير منها يُعنى بالشأن الداخلي وجزء منها مرتبط بالخارج، وعلى رغم تلازم المسارين، وصعوبة التفريق بين الداخل والخارج، وتأثير كل منهما على الآخر، إلا أن من الممكن وضع حد فاصل بينهما ليتضح المنهج في الممارسة السياسية ورسم الأولويات. وكما سبق أن جادلنا سابقاً بأن التوازن في التعامل بين الداخلي والخارجي يكمن فيه الإعجاز والإنجاز. كتب الزميل جمال خاشقجي قبل أيام في هذه الصحيفة مقالاً بعنوان «الأمير سلمان... والشرق الأوسط الجديد»، يحث فيه الأمير على الالتفات إلى السياسة الخارجية وإعطائها الأولوية، ويطالب «بإعادة النظر في «قواعد الاشتباك» الموروثة من حقبة «النظام العربي القديم» الذي انهار العام الماضي، ولا يزال ينهار بوتيرة تفاجئنا أحياناً»، كما يطالب الكاتب جميع «الذين يريدون من المملكة أن تنكفئ على شأنها الداخلي، ليأتوا بخريطة للشرق الأوسط وقلم أحمر كبير، وليعلّموا به على المناطق الساخنة حول بلدهم المستقر»... ويختم الكاتب جدله في المقال «هذا ما نريده من الأمير سلمان، دفعة هائلة من الطاقة والتجديد والحيوية والاهتمام بسياسة المملكة الخارجية بكل مؤسساتها». («الحياة» 23 حزيران/ يونيو 2012). ونؤكد اختلافنا الجذري مع الزميل خاشقجي في ما ذهب إليه، فقد جاء بمقدمات جيدة عن توصيف الوضع السياسي الإقليمي والدولي، لكنه توصل إلى نتائج خاطئة لمناداته بالاهتمام بالسياسة الخارجية. وقبل أن نسهب في تفصيل وجهة نظرنا، نود أن نذكر أن زعيمة حزب المحافظين السابقة مارغريت ثاتشر «المرأة الحديدية»، اتخذت منهجاً سمته «العودة إلى الأساسيات» «Back to Basics»، وسوف نجادل بأننا في حاجة إلى المنهج نفسه، نحن بحاجة إلى المميزات والطاقة والتجديد والحيوية لدى سلمان بن عبدالعزيز لتنصب حول الاهتمام بالأجندة الداخلية، بمعنى آخر، كل ما يلامس حاجات المواطن. لدينا عدد من الملفات في الداخل لا تزال تتفاقم. البطالة والفقر والإسكان ثلاثة ملفات خطرة لكن أداء الوزارات المعنية بها أقل من متواضع. من ناحية ثانية، لا تزال ملفات التعليم والصحة تشكل تحديات تتزايد يوماً بعد يوم، ولا يزال التعامل مع جميع تلك الملفات يتم بصورة بدائية يختص بها العالم الثالث، وهي التركيز على المدخلات والمخرجات من دون النظر إلى النتائج. لو أخذنا ملف البطالة، على سبيل المثال، لوجدنا أن حل مشكلة البطالة سيؤدي حتماً إلى تخفيف حدة الفقر، أليس «صنعة في اليد أمان من الفقر»، كما يقول المثل؟ حل مشكلة البطالة سيؤدي، أيضاً، إلى التخفيف من الأمراض الاجتماعية المعاصرة مثل المخدرات والعنف والتحرش والإرهاب والتفكك العائلي والإحباط. لا تزال البطالة تتزايد يوماً بعد يوم، بحسب الإحصاءات والأرقام الرسمية، فقد أعلن صندوق تنمية الموارد البشرية أن عدد المسجلين في برنامج حافز يفوق مليوني مواطن ومواطنة، أما المستفيدون من الإعانة فقد وصل في شهر رجب إلى 1.272.011 مستفيداً، بزيادة 44004 أو 4 في المئة. هذا يعني صرف أكثر من 2544 مليون ريال شهرياً، فكل ساعة عمل تمضي يتم صرف أكثر من 14 مليون ريال، وفي ذلك هدر لموارد الدولة المالية والبشرية، ومزيد من الإحباط لدى المواطن، وعدم الثقة في أداء الجهات المعنية في الحكومة. نريد من سلمان بن عبدالعزيز أربعاً من سماته الشخصية: الحزم والحسم والحذر والحكمة. يمكن لنا أن نقول بلا تردد إن الحزم والحسم مطلوبان بشكل سريع في الشأن الداخلي، والحذر والحكمة في التعامل مع القضايا والمتغيرات الخارجية. جميع المهتمين سمعوا وشاهدوا تبرم خادم الحرمين الشريفين في أكثر من مناسبة من أداء بعض الوزراء والوزارات، ومن مشاريع يقول عنها «نسمع بها ولكن لا نشاهدها». إننا نجزم، ويتفق معنا الكثير، بأننا سنكون سعداء جداً لو سمعنا أن وزيراً أو أكثر استبعد أو أقيل علناً بسبب سوء إدارته أو سوء إدارة وزارته، أو من يعمل معه. تطورت وتعقدت الحياة بشكل عام ولم تعد إدارة العلاقة بين الوزارات الحكومية وبين المواطن كما كانت في السابق، بات من المعروف أن أمور التنمية تحتاج إلى ثلاثة عناصر: الإرادة، والإدارة، والموارد. اجتمع لدينا ولله الحمد عنصران: الإرادة والموارد، لكن هناك تقصيراً كبيراً في موضوع الإدارة، وهذا ما نريد من الأمير سلمان الاهتمام به. أكد خادم الحرمين الشريفين في أكثر من مناسبة اهتمامه بالمواطن وخدمته، أكد ذلك للأمراء والوزراء والسفراء، وما ذلك التأكيد إلا نتاج سياسة حكيمة تنتهجها قيادة هذه البلاد منذ تأسيسها، إذ نقل عن الملك عبدالعزيز، يرحمه الله، قوله «إن خدمة الشعب واجبة علينا، لهذا فنحن نخدمه بعيوننا وقلوبنا، ونرى أن من لا يخدم الشعب ويخلص له فهو ناقص». ويبقى السؤال: هل أدرك كثير من المسؤولين، ونعني الوزراء في وزارات تُعنى مباشرة بخدمة المواطن، ذلك وعملوا على تنفيذه؟ آن الأوان لكي نستعيد ما كان يسمى «اللجنة العليا للإصلاح الإداري» بشكل جديد وحديث يتناسب مع حاجات الوطن الإدارية الحالية. فالجهات الحكومية تضخمت بشكل مخيف ونشأ عن ذلك التضخم تراخٍ وتباطؤ مخل انعكس سلباً على العلاقة بين المواطن والحكومة. وبقدر ما تزداد الثقة بين المواطن والدولة تتناقص تلك الثقة بين المواطن والحكومة، وذلك مؤشر خطر. نقل عن الملك عبدالعزيز تأكيده على أهمية اتباع أوامر الحكومة، لكنه في الوقت نفسه قال: «ثقوا بأننا سنتولى أمر التفتيش عن ذلك بأنفسنا ونقسم بالله أننا سنهاجمكم - يعني الحكومة - على حين غرة فإذا رأيت أحدكم حاد عن الطريق السوي وقام بأعمال تلزم إدانته بدأنا بإدانة رئيسه ثم بإدانة ذلك الشخص من دون هوادة ولا شفقة، وأعلمكم أن الجزاء والقصاص لن يكون إلا صارماً». أما الشأن الخارجي، فليس لنا أن نذهب بعيداً، بل أن نقدح زناد الذاكرة لكي نستلهم الحكمة السعودية من المؤسس عندما تعامل بكل حكمة واقتدار مع الاضطراب السياسي الدولي في الحربين العالميتين الأولى والثانية وجنب دولته الوليدة مآسي وشرور الحروب وعدم الاستقرار. وما يجري اليوم في العالم العربي من «ربيع» في دول الأنظمة الثورية، وما يجري بين أوروبا والولايات المتحدة من ناحية، وروسيا والصين من ناحية أخرى ليس إلا حروب مصالح بأساليب مختلفة، ويحتاج ذلك إلى كثير من الحكمة والحذر حتى تستقر تلك الدول. في كتابه عن الحرب، يجادل المنظر العسكري البروسي كارل فون كلاوزفيتز، بأن الحرب هي «عمليات مستمرة من العلاقات السياسية، ولكن بوسائل مختلفة»، أصبح من الضروري في ظل الأمواج السياسية والاقتصادية العاتية التي تعم العالم اليوم أن يصار إلى رسم خريطة طريق أو استراتيجية تحدد وتعيد تعريف المصالح الوطنية بأقسامها الأربعة: الاستراتيجية، والحيوية، والحساسة والهامشية. أخيراً التركيز على الشأن الداخلي يشكل أولوية قصوى ولا ينتقص من مكانة المملكة العالمية في ظل أجواء ملبدة بغيوم سياسية ومخاض جيوسياسي مع نكهة اقتصادية أشبه ما تكون بتلك التي شهدها العالم، قبل قرن من الزمان أدت إلى نشوب الحرب العالمية الأولى، ومهما كان الحال فإننا على ثقة تامة بأن الأمير سلمان يعي بثاقب بصيرته كيف تدار الأمور لأن حرصه على الوطن والمواطن لا يعدله أمر آخر. أعانك الله يا سلمان وحفظ الله الوطن. * كاتب سعودي. [email protected]