الرقم المصيري الذي يلوح الآن في افق الدولة اليونانية هو 3. إلا أن البلاد لن تكون في حاجة إلى جولة انتخابية ثالثة في غضون الأشهر الثلاثة المقبلة على الأقل، لأنها تمتلك الآن تحالفاً ثلاثياً تستند إليه الحكومة الجديدة. ظهور هذه الحكومة أضحى ممكناً بعد فوز حزب «الديموقراطية الجديدة» المحافظ وإلحاقه الهزيمة بحزب «سيريزا» بفارق ضئيل هو 3 في المئة فقط. وهذا التحالف توصلت إلى تشكيله القوى السياسية المتنازعة في اليوم الثالث على الانتخابات التي جرت في 17 حزيران (يونيو) الجاري. مهمة هذه الحكومة الأولى والاستثنائية هي إعادة التفاوض مجدداً مع الترويكا (الاتحاد الأوروبي، البنك المركزي الأوروبي، صندوق النقد الدولي) التي نعتها زعيم «سيريزا» الكسيس تسيبارس ب «التحالف البربري» وهي محاولة تكاد تكون مستحيلة النجاح على خلفية الرفض الأوروبي تخفيف شروط الحصول على القروض المالية ضمن الجدول الزمني المحدد في اتفاق التسوية الإنقاذي. التوافق الباعث على السعادة والسرور في ثنايا الأرقام والحسابات بالنسبة لكل من اليونان وأوروبا وصل إلى عمق نهاياته. بالفعل لم يعد السيناريو الأكثر إثارة للرعب في نفوس البيروقراطيين المتقوقعين في الأروقة الأوروبية في بروكسيل محتملاً في المستقبل المنظور بعد أن خسر اليساريون المتطرفون وعلى رأسهم ( سيريزا) فرصة الإمساك بالسلطة بعد نجاح وانتشار شعبي موقت تبدد بفعل استراتيجية إعلامية انتهجها المسؤولون الأوروبيون أثارت الخوف في نفوس اليونانيين من عواقب المجهول الذي ينتظرهم إذا ما أعادوا التصويت لصالح هذه الأحزاب الرافضة للسياسات التقشفية ومصادرة أوروبا لسيادة بلدهم وتهديد قادتها بتمزيق ما سماه تسيبارس الاتفاق «البربري» الذي يحميها من السقوط في هوة الإفلاس والانهيار. لقد حصل ما أراده وتمناه القادة الأوروبيون ومن خلفهم واشنطن بتصويت غالبية اليونانيين العقلاء بالطبع لصالح برامج القوى التي دافعت عن البقاء في منطقة اليورو ومنحوها ما تحتاج إليه من أصوات ونسب تمكنها من تشكيل تحالف حكومي يضم إلى جانب الديموقراطية الجديدة و»باسوك» الاشتراكي، حزب اليسار الديمقراطي. لا يختلف أحد من المراقبين والخبراء على أن هذه الحكومة ستحتاج إلى أعجوبة أو لعبة سحرية حقيقية تبقيها في الحكم ليس لسنتين كما يرغب رئيسها اندونيس ساماراس، بل لأشهر معدودة فقط. والمشكلة هي أن العقدة الأقل سوءاً وضرراً من بين كل العقد الممكنة في اليونان لا تحل المشكلة الأوروبية الأساسية التي تحدد وجود اليورو وتقرر مصيره النهائي، لأن نجاة اليونان من مقصلة الانهيار الشامل بتشكيل الحكومة ذات المزاج الغربي يقدم خدمة ضئيلة الأهمية لزعماء أوروبا بإعطائهم جرعة قصيرة من الوقت لمنع تدحرج العدوى السريع إلى إسبانيا وإيطاليا والبرتغال، و الآن إلى قبرص التي طلبت هي الأخرى قروضاً كبيرة لمواجهة تحديات دراماتيكية في أوضاعها المالية قبل أيام قليلة من توليها قيادة الاتحاد. بداية جديدة بوجوه قديمة يتساءل كثيرون من المراقبين في اليونان وغيرها من البلدان الأوروبية عن السبب الذي دفع اليونانيين إلى اجراء انتخابات عامة لمرتين متتاليتين ومن ثم اختيار تلك الأحزاب ذاتها، كما ومن الصعب تفهم الدوافع التي فرضت على الدولة المرور عبر كل هذه المطبات والأزمات القاتلة من اجل أن تبدل حكومة «الديموقراطية الجديدة – باسوك» بحكومة «الديموقراطية الجديدة – باسوك» ؟. ربما يكون الاختلاف الرئيسي الوحيد الملموس بين انتخابات أيار( مايو) واقتراع حزيران، هو أن حزب «الديموقراطية الجديدة « احرز نتيجة افضل وحصل على دعم شعبي اكبر من «باسوك»، كذلك التبدل الإيجابي الحاصل في مواقع اليسار الديموقراطي. غير أن هذا يعكس فقط حركة مواقع الأحزاب السياسية في جانبها « الرقمي» في إطار التغييرات في النسب والأرقام خلال فترات قياسية من الزمن، ويبقى من المهم الإشارة أيضاً إلى سياق انعكاساتها النفسية المرتبطة بما افرزه فشل المفاوضات في مرحلتها الأولى. الآن تبدو التربة جاهزة وكافية الخصوبة للإنضاج على خلفية إجماع واتفاق الأحزاب الثلاثة على الالتزام بالتسوية مع الترويكا «وفق ما ذكره المحلل السياسي اليوناني جيورجيوس سيفيرتيس في حوار مع أسبوعية « كابيتال» الصادرة في صوفيا. وحتى نكون اكثر دقة عند الحديث عن التحالف الحكومي لابد من الإشارة إلى حقيقة أن الطرف الثالث في هذا التحالف « اليسار الديموقراطي» بزعامة فوتيس كوفيليس تم كسبه كشريك ليس فقط لتوفير غالبية برلمانية مريحة قوامها 179 نائباً، وإنما أيضاً بهدف الحد من نفوذ وتأثير حزب (سيريزا) على الناخبين اليساريين بالدرجة الأولى، فضلاً عن توجيه رسالة تقدير إلى جمهور كوفيليس الذي لم يتخل عنه على الرغم من أن برنامجه كان مع البقاء في منطقة اليورو. طريقان لا ثالث لهما على حسابه في «تويتر» كتب مدير (Re-Define ) سوني كابور موجهاً كلامه إلى رئيس الحكومة اليونانية ساماراس بعد إعلان فوزه في الانتخابات «عزيزي ساماراس، أهلاً وسهلاً بك في أصعب وأسوأ منصب في العالم على الإطلاق، ولكنك ربما تكون افضل من يستحقه إذا أخذنا بنظر الاعتبار ما فعله حزبك ببلده!». هذه المزحة السوداء تعكس حجم السخرية التي استقبل بها العالم تطورات الكوميديا اليونانية لأن حزب الديموقراطية الجديدة هو من يجب أن يتحمل المسؤولية الأولى عن غرق البلاد ووصولها إلى قاع المتاهة الاقتصادية والمالية، على الرغم من أن «باسوك» هو الأخر يتحمل المسؤولية عن إيصال البلاد إلى القاع بسبب الإصلاحات الناقصة وغير العملية في عهد جورجيوس باباندريو ونفاذ صبر الاتحاد وتبدد ثقته بقدرته على انتشال البلاد من أوضاعها المتفاقمة. بعد أسابيع عاشها وهو يصارع موجات القلق من مجهول آت ظل يقض مضاجعه وهو يخوض حملاته الانتخابية الواحدة تلو الأخرى، يعود ساماراس إلى كرسي الوزير الأول لدولة تتأرجح على حافة الإفلاس، وتحتضر تحت أعباء خمس سنوات من الركود الاقتصادي، ومجتمع التهمته الاستقطابات السياسية وغرق حتى الرأس في التطرف. ساماراس الآن يبدو خالي الوفاض من الأدوات التي ستعينه في مهمته المستحيلة، فالاقتصاد اليوناني فقد 17 في المئة من الناتج القومي الإجمالي خلال الأعوام الأخيرة، والبطالة ارتفعت نسبتها إلى نحو 15 في المئة، وإلى 50 في المئة بين الشباب المتعلم، وهذا يعني بوضوح أن النسيج الاجتماعي أضحى ممزقاً وتتراكم في طياته مشاعر السخط والغضب. مثل هذه الأجواء تعتبر حاضنة للقوى اليسارية وللفوضويين وما اكثرهم في اليونان وسوف لن يفوت تسيبراس وجماعته أي إمكانية متاحة لتعكير الأجواء وانتهاز الفرص لمهاجمة ساماراس وحكومته، وستكون سيريزا المعارضة العدوانية والسلبية الأقوى ليس فقط في أروقة البرلمان، بل وفي الشارع أيضاً. يقول أستاذ العلوم السياسية في (Panteion University) فاسيليكي جيورجيادو:» من المهم لليونان الآن ليس فقط حكومة مستقرة، ولكن أيضاً معارضة هامشية وهلامية لأن وجود معارضة قوية سيجعل من الحكومة ضعيفة وحتى هزيلة» وأضاف «بوجود سيريزا والتيارات الرافضة لاتفاق التسوية مع الترويكا سيكون الانقسام المجتمعي والسياسي اكبر وأعمق». التوترات السياسية الداخلية لن تكون وحدها ما سيلقي ساماراس وحكومته في جحيم الأزمة، فالضغوط الأوروبية هي الأخرى ستحرق الأرض تحت قدميه بخاصة أن ما ينبغي عليه أن يفعله فشل في تحقيقه كل السياسيين في البلاد أو انهم لم يرغبوا في ذلك لأسباب خاصة بهم وبمصالحهم الحزبية والانتخابية. يرصد المراقبون أن الخطوة الأولى التي خطاها ساماراس وهي تشكيل الحكومة كانت مخيبة للآمال، إذ بدلاً من اختياره شخصيات غير حزبية كفوءة وجديرة من التكنوقراط، «ارتكب» حكومة تعيد إنتاج الستاتيكو السابق تعج بالموالين لحزبه وله شخصيا، ما دفع مسؤولاً أوروبياً رفيعاًَ إلى القول» لا اصدق ما اسمع وأرى، أنا عاجز عن النطق لأن لا احد كان يتوقع مثل هذه النتيجة!». ما يثير القلق في هذه الحكومة هو غياب نواب من باسوك واليسار الديموقراطي عن حقائبها، ما يمكن اعتباره مؤشراً إلى أن الحزبين لا يريدان تحمل مسؤولية أي قرارات مؤلمة مطروحة على جدول أعمال الحكومة الجديدة وليس أمامها إلا اتخاذها مهما كان الثمن. ويجمع المراقبون على أن ابتعاد هذين الحزبين عن المشاركة في طاقم الحكومة بنواب من البرلمان قد يتطور بسرعة ليتحول إلى انشقاق سينجم عنه انهيار الائتلاف في لحظة المواجهة الأولى مع معطيات الواقع وحقائقه. بقاء هذه الحكومة يعتمد بالدرجة الأساسية على المفاوضات المرتقبة مع الاتحاد الأوروبي، وإذا ما حصل تغيير في الموقف الأوروبي لجهة تخفيف الشروط التي وردت في الاتفاق الإنقاذي وتحققت نقلة في السياسة الاقتصادية نحو معدلات أوسع للنمو، من الممكن الادعاء بأنها ستعيش، وإلا فأنها في كل الاحتمالات سوف لن تستمر وستذهب اليونان إلى انتخابات ثالثة في الخريف المقبل». * كاتب وصحافي عراقي مقيم في صوفيا