قصفت الردّة الأخيرة عن الإصلاحات السياسية في الأردن، بالتزامن مع رفع أسعار البنزين والكهرباء ودفن ملف الفساد، يناعة الربيع السياسي ودفعت عدداً متزايداً إلى لاعتقاد بأن رجال الحكم يعانون انفصاماً. فإعمال المنجل ببذور الإصلاح ولّد مرارة عميقة بحجم الخديعة السياسية والأخلاقية بعدما أقر البرلمان قانون انتخاب متخلّفاً أعاد استنساخ «نظام الصوت الواحد» المطبق منذ 1993 مع تعديلات تجميلية: صوت للناخب في الدوائر المحلية وثانٍ لقائمة وطنية قوامها 17 مقعداً. هذه المعادلة ستسهل تسويق القانون على أنه إنجاز، لكنها تقضي على ما تبقى من آمال خلّفها إصرار الملك على أن الانهيارات في الإقليم وفّرت له فرصة ذهبية لتسريع أجندة الديموقراطية، التي عارضتها قوى «الشدّ العكسي» منذ بداية حكمه. وستخرج الحكومات من رحم البرلمان بشرعية تمثيلية منقوصة، ما يثير امتعاض قطاعات سياسية وشعبية أخذت تفكّر جدياً في مقاطعة الانتخابات المبكرة هذا العام. تمرير القانون ضرب تطورات شهدتها عملية الإصلاح العام الماضي، كتشكيل لجنة حوار وطني أوصت بحزمة إصلاحات تقدمية، وإقرار تعديلات حيوية على الدستور طاولت ثلث مواده، كان بين ثمارها استحداث هيئة مستقلة للإشراف على الانتخابات وإدارتها، وإنشاء محكمة دستورية. المجلس النيابي المقبل سيكون على الأرجح منزوع الدسم كحال أسلافه الخمسة. غالبية أعضائه يمثّل قوى محافظة وتقليدية وأخرى تطفو على محركات المال السياسي. أما أن المقاعد تعكس تمثيلاً جغرافياً ما، فقد يفرح المكون الرئيسي الشرق أردني ويؤجج مشاعر التهميش المستمر لدى الأردنيين من أصول فلسطينية. وتشي قراءة بأثر رجعي لممارسات السلطة بأن المسؤولين رضخوا لاستحقاقات «الربيع العربي» عبر ارتداء سترة نجاة موقتة خلعوها مع اقتراب الفرصة السانحة التي وفّرتها معطيات خارجية وداخلية. فخلال سنة ونصف سنة لم يتغير الكثير: الإعلام لا يزال موجهاً وزادت محاولات تدجينه. تداخل السلطات مستمر، كتدخل دائرة الاستخبارات في كل تفاصيل المشهد السياسي بعد سنتين من التمويه والعمل في الظل. الولاية العامة للحكومة تظل مثار جدل، كحال فك التداخل بين السياسي والأمني والسلطات الثلاث. تعاقبت على الأردن أربع حكومات، ويستمر المسؤولون في التهرب من ضرورة «التشبيك» مع الإسلاميين للاتفاق على قواعد اللعبة الجديدة. بل تستمر التحديات الاقتصادية - الاجتماعية وتتفاقم على وقع عجز الموازنة وارتفاع الدَيْن الخارجي إلى سقوف خطرة وسط فساد نخب الحكم، ما قد يدفع إلى انفجار مؤجل لا تحمد عقباه. البرلمان شارك في مخطط «ردة» هندسه «العصب السياسي الأمني» عقب التقاط أنفاسه بعد شهور على فقدانه توازنه على وقع الثورات العربية. ولتمرير مخطط ضبط مخرجات الإصلاح السياسي لجأ هذا «العصب» إلى أعوانه التقليديين، فتحالف مع «الحرس القديم»، مؤسسة الفساد والإفساد وحزب البيروقراطية المتجذر و «بلطجيين معتمدين». وقد اعتمدوا على حملة موجهة لحشر الجميع بين خيارين لا ثالث لهما: حزب الدولة أو «الإخوان المسلمون». وبالطبع، تم التواطؤ بمنتهى السهولة بعدما شعر أعضاء التحالف بحجم التهديد الذي يطاول مصالحهم في دولة ديموقراطية مدنية مفترضة قائمة على فصل السلطات، إذ أن التعددية والتداول السلمي سيعطيان للإسلاميين نصيب الأسد. هكذا، بين ليلة وضحاها انتزع النواب جوازات سفر ديبلوماسية ومعاشات تقاعدية مدى الحياة، وفي السياق تم أُقِر قانون الانتخاب الممسوخ وطويت ملفات الفساد والهدر التي كانوا يتقصّونها. ونجحت الاستدارة المبرمجة عبر اللعب على انقسامات المجتمع على الهوية السياسية، في الرهان على قرب انهيار الحراك المجتمعي لأنه فشل في تأطير مرجعية فكرية تتعدى الشعارات. واستُغل دعم الغرب القلق من الانهيارات عربياً والمكتفي بالإصلاحات السياسية المنجزة، إلى جانب وعود بوصول أكثر من ثلاثة بلايين دولار من الخليج لإنقاذ الاقتصاد. الفرضية الأخرى ترى أن الأساس في الحراك اقتصادي وليس سياسياً، ما يتطلب مقاربة ذات طابع اقتصادي. لكن هذه الرهانات الرسمية تنسى أن في «السيكولوجية الجمعية» للأردنيين رابطاً بين ضنك العيش وتآكل الدخل وبين فساد نخبة الحكم، ما يتطلب إجراءات تعيد الشرعية والسلطة الأخلاقية إلى المؤسسة الرسمية. السؤال الأهم يبقى: كيف مُرِّر مخطط كهذا بعدما وعد الملك شعبه مراراً بأن المطلوب قانون انتخاب توافقي يضمن مشاركة الأردنيين في انتخابات تكون مثالاً للديموقراطية والنزاهة، وأن الصوت الواحد ولّى إلى غير رجعة؟ كيف يسمح بشطب تصورات لجنة الحوار الوطني التي أعلن الملك في بدايات عملها ضمانه توصياتها؟ كيف تُضرب بعرض الحائط تصورات جاءت في مشاريع قوانين انتخاب أكثر ديموقراطية وتمثيلاً، قدمتها الحكومتان السابقتان؟ الانتكاسة تدخِل الأردن في عين الإعصار، في لحظة حرجة داخلياً وفي ظروف إقليمية معقدة مفتوحة على كل الاحتمالات. في مصر أصبح الإسلامي محمد مرسي رئيساً لأكبر دولة عربية. في تونس يسيطر الإسلاميون على الحكومة. سورية تعيش حرباً أهلية. وباستفزازه الفج، يكون «العصب السياسي الأمني» دفع الأحزاب ومكونات واسعة من المجتمع إلى التفكير جدّياً في مقاطعة الانتخابات المقبلة، إذ من دون معارضة، تتحول الانتخابات مشكلةً بدل أن تكون حلاً. فما خيار الحكومة في حال قرّرت جماعة «الإخوان» المقاطعة وبدء برامج تصعيد للوصول إلى السلطة بعد انتعاش آمالها بفوز مرسي؟ ماذا لو قاطعت المحافظات الغاضبة من التجاهل والإهمال؟ المعطيات الإقليمية التي ساعدت على الردة قد تتغير أيضاً. وقد يضطر النظام إلى إبرام صفقة مع الإسلاميين لإنقاذ ماء وجه الانتخابات، أما الدول التي تعد مساعداتها المالية رافداً مهماً لدعم الاقتصاد الأردني، فتموّل أيضاً الجماعات الإسلامية الصاعدة التي يحاول الأردن إقصاءها. تحاول دول الخليج دفع الأردن إلى اتخاذ موقف أوضح ضد نظام بشار الأسد، ما قد يخفّف احتقان الإسلاميين في الداخل، لكنه سيؤجج غضب جماعات حزبية موالية لسورية. وصعود الإسلاميين إلى الحكم في أي انتخابات تجرى مستقبلا في سورية يعني استكمال أضلاع الطوق الإسلامي الجديد المحيط بالأردن! باختصار، تشكّل مظاهر الردة الأخيرة عودة لخصائص ديكتاتورية الجاهلية السياسية التي اعتقد كثر بأنها ولّت. لعبة شراء الوقت، الحسابات الضيقة والاعتماد على المساعدات الخارجية ودعم الغرب، لن تلغي الصراع التشريعي والسياسي الأزلي، والإسلاميون لن يستكينوا. فلا مناص إذاً من إصلاحات جوهرية من دون مساحيق تجميل.