علاقة إيران بالعرب لم تخلُ من شد ورخي، المسرح للصراع كان وما زال الخليج العربي، لكن إيران بعد ثلاثة عقود ونيف على ثورتها، أرادت أن يكون الصراع خارج تلك الدائرة. كانت الثورة أشبه بفتوى جواز للتمدد والانتشار، وهنا كان لمقولة تصدير الثورة أن تجد طريقها إلى قاموس العلاقة بين إيران والعرب. خلال ثلاثة عقود ونيف انشغلت إيران بالثورة وتصديرها والحضور الإقليمي، ولو كان ذلك على حساب الداخل الذي شهد مع مرور الوقت تنامياً للفقر وذوباناً للطبقة الوسطى وتزايداً للقمع. ومع ذلك ظلت إيران تحرص على يدها الطولى عند العرب، في دعمها للمقاومة العربية، في لبنان وفلسطين، وفيما كان العرب منشغلين باليومي والصراع على الأدوار، نشطت إيران بالصناعة وبخاصة العسكرية والمشروع النووي، وبرغم كل الحروب التي شهدتها المنطقة وإيران طرفاً في بعضها، فإنها خرجت أكثر قوة وفاعلية في الحضور الإقليمي والدولي وخرج العرب أكثر ضعفاً وتشرذماً. العرب أيضاً انقسموا في أمر إيران، فمنهم من بقي يدعوها بالحليف، والجار التاريخي، ومنهم من رآها عدواً لا يمكن أن يترك السهل الواقع إلى الغرب منه/ العراق يتلمس طريق النهوض، لذلك، دعمت إيران الغرب في مشروع إسقاط نظام صدام حسين، وثمة عرب آخرون، يمارسون فضيلة الصمت والسكوت، لكنها فضيلة موثقة باتفاقيات تعاون عسكري طويلة الأمد. في مقابل هذا، يقف عرب آخرون محاذرين في أمر إيران، ولعل هذه المحاذرة هي السبب وراء شح المدارس في دراسة العلاقات العربية مع إيران. ولهذا رأى المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة أن يلتقي مجموعة من الخبراء والباحثين في الأمر العربي الإيراني، في ندوة علمية لم يرد لها أن تكون حواراً عربياً إيرانياً أو بحثاً في أسباب الصراع بل تفاعلاً ونقاشاً، يسعى إلى محاولة فهم العلاقة بين الدول والشعوب. العرب وإيران التحولات والمصائر يضم كتاب العرب وإيران، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، أحد عشر دراسة، لمختصين وباحثين تناولوا تجليات العلائق التاريخية، والأوهام التي تخصها والظروف التاريخية التي أدت إلى تفاعلها والمشاهد الحاضرة التي تكشف عن الود المفقود بين العرب وإيران وغياب الثقة مع دراسة الفاعل السياسي في هذه العلاقات، وبخاصة في المشرق العربي والمتمثل في القضية الفلسطينية والمشهدين العراقي واللبناني مروراً بالأوضاع والتحالفات الجيوسياسية بين طهران ودمشق. في دراسة التحولات والإطار العام للعلاقات العربية الإيرانية جاءت ملاحظات عزمي بشارة والتي بينت أن حالة العلاقة بين إيران والعرب، هي حالة من التنافر الرسمي العربي في تحديد العدو والصديق، كما انها تقدم نموذجاً لغياب أمن وطني بديل (ص5). ويقف بشارة عند مجموعة محطات مؤثرة في تحول السياسات الإيرانية، وعلى رأسها هزيمة الإصلاحيين عام 2005 وولادة جيل إيراني جديد، ميزته التشديد على بُعد الحرية من جهة وعلى السيادة والهوية من جهة أخرى (ص 8-9). المؤرخ وجيه كوثراني يدخل من باب التاريخ والذاكرة، مستشهداً بمقولة المؤرخ الفرنسي جاك لوغوف: أن الذاكرة الجماعية أسطورية بشكل أساسي، مشوهة تخلط الأزمنة لكنها على كل حال، هي حالة المعيش للعلاقة التي لا تنتهي بين الماضي والحاضر» (ص 27). التاريخ المجيد والذاكرة المشعة، هي مدار الصفحات الأولى من ورقة كوثراني والذي، يعود إلى زمن أول كانت فيه إيران مثقلة بجراح المقاومة للغرب الممثل بروما وبيزنطة، وهو ما جعلها ترخي أذرع المقاومة إلى العرب وفتوحات الإسلام الأول. ومع مرور الزمن كان للعلاقات أن تتجاوز زمن المواجهة الأولى في القادسية، فعبر محطات تاريخية، يحاول كوثراني أن يحمل الزمن الماضي إلى الحاضر، فالقادسية محطة أولى، والدعوى الشعوبية ومعانيها الثقافية محطة ثانية، والتشيع والتسنن محطة ثالثة. والمشروع السلطاني والمذهب الواحد للدولة محطة رابعة، ثم الصراع الصفوي والعثماني خامساً وأخيراً المصطلحات والسياقات التاريخية التي أدت إلى تكون الإدراكات العربية للعلاقة مع إيران (ص 46-54). ولم يبتعد الباحث محجوب الزويري عن كوثراني كثيراً، لكنه بحث ظلال الدين والسياسة عبر الزمان، الذي هو التاريخ، فكانت الدراسة تتقصى الدخول الفارسي إلى زمن سلالي عربي جديد. والباحث هنا تميز في إطلالته على المصادر الفارسية، والتي تعتبر أن القرنين الهجريين الأوليين بالنسبة لمؤرخ فارسي مثل عبد الحسين زرين كوب تسمى مرحلة السكوت، وهذه المرحلة استمرت من قبل الفرس حتى بداية عصر هارون الرشيد (ص 58). وبعد تتبع للحضور الفارسي في الأزمنة العباسية المختلفة، يرى الزويري أن تأسيس الدولة الصفوية خارج الخريطة السنية قد أدى إلى تشكل علاقة مختلفة عن السابق، فهي تمثل لحظة انقسام بين عالم سني عثماني وعالم صفوي شيعي. وهذا التواصل التاريخي الذي انتهى بكتلتين تاريخيتين، ألقى بظلاله على علاقات الطرفين حتى اليوم، إذ يتابع الباحث العلاقات بين الطرفين في فترة الحرب العالمية الأولى ومن خلال القضية الفلسطينية، ومسار السلام والأزمة النووية. وهو يخلص إلى إن التناقض بين الدول العربية في إزاء الموقف من إيران ظل هو سيد الموقف، وفي المقابل تمتعت إيران قبل سنة 2009 بنوع من القبول والحضور بصفتها الثورية، التي جعلتها نموذجاً للديموقراطية الإسلامية. وفي ظل هذه المعطيات والمتخيل التاريخي، والذاكرة المضطربة تتكون قابلية دخول الأوهام في الحقائق، وهو ما بحثه محمد الأحمري. الذي يرى أن التاريخ كان سلاحاً دائماً بين المتجاورين، وهو يراه أداة للهدم والبناء. والأحمري يمارس نقداً لمسار التاريخ، وهو يعتقد أن الرصيد التاريخي لأمتين جارتين مثل العرب والفرس، لم يُصفِ الجو بينهما دائماً وصار الدين غير قادر على الجمع بينهما، ويقرر بأن الثورة الإيرانية ورثت من الشاه العداء للجيران (ص 76). وهنا يدخل الأحمري في أسباب الثقة الغائبة، بين دولة تطمح حسب الدستور لإقامة حكومة عالمية للإسلام، وبين عرب متأثرين بكل ذلك الطموح الواثب. والأحمري يلتقط جملة مؤثرات في هذه العلاقة، وعلى رأسها النفط الذي يراه عامل مهابة وقوة لدى إيران، وعامل ضعف ووهن عند العرب (ص 83). أما المصالح المشتركة برغم التاريخ العبء، فإنها تجد لها مكاناً حتى وإن كانت العلاقات غير مستقرة أو مفقودة الودّ، وهو ما ذهب إلى بحثه طلال عتريسي الذي يؤكد أن أحد أسباب الاضطراب في العلاقات، غياب الموقف العربي الموحد من إيران (ص 89) ويذهب عتريسي أكثر عمقاً نحو المنحى اللبناني في العلاقة مع إيران بدءاً من فتوى الإمام الخميني بوجوب مقاومة إسرائيل عام 1982 عندما اجتاحت لبنان. لكن تلك العلاقة التي رسخت بعد تثبيت الثورة الإيرانية أقدامها، لم تبدأ من الصفر بحسب الكاتب، وقد ظلت علاقة متوترة وغير مستقرة بفعل عوامل عدة داخل إيران وفي لبنان أيضاً، ويمكن تقسيم العلاقة إلى مراحل: الأولى بين عامي 1980-1990، وهذه المرحلة كان عنوانها مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وفي المرحلة الثانية 1990-2000 وهي مرحلة عودة الحرارة للعلاقات بين البلدين، وهي حقبة وجود الرئيس خاتمي في سدة الرئاسة وتعد المرحلة الرابعة 2000-2005 الحقبة الذهبية في العلاقات بين البلدين، أما المرحلة الخامسة فهي الممتدة بين عامي 2005-2008 وهي مرحلة التدهور، والتي كان عنوانها اغتيال الرئيس رفيق الحريري وتداعياته. وبعد العام 2008 عادت العلاقة للاستقرار. منذ الثمانينات دعمت إيران سورية نفطياً واقتصادياً، وسورية لم يدر بخلدها أن التحالف مع العدو القومي للعرب يمكن أن يؤثر عليها، وربما كانت مسألة المقاومة ودعمها الشرط الموضوعي الذي لزم النظام في سورية للإبقاء على تلك العلاقة. مثلت سورية ممراً لإيران للمنطقة، وتحالفت الدولتان معاً وما زالتا على تحالفهما. ورأت إيران أن إلغاء سيادة العراق سيدخلها إلى البحر المتوسط عبر البر السوري وكانت في تلك السياسة التي طبقتها تريد إلغاء مصطلح الجوار الجغرافي، يكون السهل العربي متاحاً لها دون مقاومة أو منافس وكذلك مع دول الخليج تريد سيادة كاملة ودونمنازع على الخليج العربي، لا بل تحاول إيران إسقاط إي مشروع اتحادي بين دول مجلس التعاون الخليجي. ويظل برنامج إيران النووي فاعلاً أساسياً في إشكالية العلاقات الخليجية الإيرانية. (ص 111). دعم المقاومة مطية الحضور الإيراني دعم المقاومة، كان غذاء البقاء لإيران في الشارع العربي وهناك جمهور متعطش لنصر ما. وثمة رغبة بتجاوز الكراهيات التاريخية لمصلحة بناء جبهة إسلامية ضد العدو الإسرائيلي. شكل ضعف العرب مقارنة بنمو قوة إيران أحد أسباب التغلغل الإيراني في العشوائيات والأحياء الشعبية وفي صفوف المقاومة، وكان التصاق حماس بالدعم الإيراني مرحلياً احد أسباب ضعف التأييد لحماس أحياناً، وفي المقابل ظل حزب الله القناة المتدفقة لحضور إيران. وفي ظل العطش لثورة عربية مثل الربيع العربي، كان أحمدي نجاد الرئيس الشرقي الوحيد الذي يعيش في شقة متواضعة ويغذي أحلام البسطاء والمجاهدين، وكانت صورة الولي الفقيه وتلميذه أحمد نجاد كافية لأن تديم صورة إيران في المنطقة، بخاصة إن دعوتها لحكومة عالمية إسلامية تلتقي مع شعارات براقة لبعض المنظمات والأحزاب مثل حزب الله وحماس وغيرهما. وهذا ما حاولت الباحثة فاطمة الصمادي أن تجيب عنه بقولها: «مهمتي بحث في الخطاب والدلالات والمدونات الفاعلة في أولويات العلاقة بين العرب وإيران». أما عبدالوهاب القصاب فذهب في ورقته عن النفوذ الإيراني في العراق إلى محاولة قراءة معمقة للعلاقات العراقية - الإيرانية خلال القرون المنصرمة وتوتراتها المتلاحقة من العهد الصفوي مروراً بالثورات الدستورية في كلا الجانبين - الصفوي والعثماني - ثم في الحرب العراقية الإيرانية وعلاقة الحوزات معاً في النجف وكربلاء وهي ورقة عبر محاورها التي سردت التاريخ، حاولت أن تلقي الضوء على النيات والجهود الحوزية وأسباب التوتر والحروب. (ص 160-161). وفي ذات السياق يذهب موسى الغريري إلى الوقوف مطولاً عند العلاقات الإيرانية السورية من خلال مقارنات بين النظامين والمكونات المؤسساتية في الدولتين، ففي إيران دولة بحزب، وفي سورية افترض النظام أنه يمثل حزب الدولة. والثورة الإيرانية قربت سورية مع طهران، وسورية كسبت كثيراً من ذلك التقارب وهو تقارب يتكئ على العداوة لإسرائيل أولاً. التاريخ والجوار الجغرافي، لم يكونا شرطاً للحضور الإيراني، في العلاقة مع العرب، وهو ما حاول الباحثون الحسن الزاوي وعبدالعلي حامي الدين والطاهر الأدغم، أن يطرقوه في حالة الجزائروإيران من الوساطة إلى الصراع، ثم التحالف (ص 194) وفي الثوابت التاريخية للجفاء المغربي مع إيران، وهناك ليبيا التي تتقارب مع إيران في السياسات وتختلف معها في الاستراتيجيات وكل ذلك قبل زوال نظام القذافي وفي الصحراء المغربية وموريتانيا، تحضر أيضاً إيران. ويخلص عبدالعلي حامي الدين إلى إن محددات العلاقة بين العرب وجيرانهم تعود لإخفاق العرب السياسي وطغيان الحسابات السياسية لبعض الأنظمة الناقصة الشرعية على حسابات تطلعات الشعوب وطموحاتها. كما أن عجز العرب الديموقراطي في التداول السلمي للسلطة، جعل قياداتهم عاجزة عن تقدير مصالح شعوبهم في علاقاتهم الإستراتيجية مع جوارهم بما فيه إيران.