صدور «تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2009» في بيروت، قبل أيام، غطى بوهجه والسجال فيه وحوله على تقرير التنمية البشرية في العراق. فهو مطروح لنقاش عام انطلق من بيروت ويخطط له ان يتواصل في عواصم أخرى مع وعد بنشر السجالات. تقارير الأممالمتحدة، في العادة، تمتاز بتخصص تقني تنموي (إنمائي)، يتمسك بمفاهيم ثابتة، ومؤشرات تجسد هذه المفاهيم، ثم قياسات أنيقة ودقيقة في الغالب. لا أحد يباري أو يجاري خبراء الأممالمتحدة، الأغراب والأعراب، في هذه البراعة التقنية التخصصية. ولكن ما ان ننتقل من قضايا التنمية (التعليم، الدخل، الفرد، السكن، الخدمات، الانفاق على التنمية) او قضايا أمن الإنسان (وهي محددة بسبعة مفاهيم لها محدداتها ومؤشرات قياسها الكمي) حتى تبدأ المشاكل. والمشكلة الأكبر هي المؤشر الإيديولوجي والتفضيلات السياسية للمؤلفين. فالخبير مهني متجرد حين يتعلق الأمر بالقضايا التقنية التخصصية، وهو متقنع إيديولوجي، حين يتعلق الأمر بالأطر السياسية. وبدل ان تحاول التقارير تحليل تضارب وجهات النظر السياسية- الإيديولوجية في الوطن العربي إزاء هذه او تلك من القضايا بوصفها موضوعاً للدرس نراها، بوعي أو من دونه، تسجل انحيازاً بيّناً. هذا الانحياز مشروع لصاحبه بصفته مواطناً وعضو جماعة سياسية، وهو أمر طبيعي، لكنه غير مستحب ونافل بل ضار في وثائق أممية. وينطبق هذا على معالجة القضية الفلسطينية، والقضية العراقية حيث عولجت علاجاً ناقصاً، لا يتناول مجمل العوامل المركبة، ولا يربأ ايضاً بالنتائج المتعددة المتضاربة لكل حالة. دعونا نأخذ قضية تهديد الدولة لأمن الإنسان مثالاً: اذ عولج الموضوع بأدب جم لا يتناسب وفظاظة الأجهزة الرسمية. وأجد ان تقرير التنمية لعام 2004 اكثر جرأة وصراحة، وهو يعلن في عنوانه الفرعي: نحو الحرية في الوطن العربي. عدا هذا وذاك ثمة أبعاد سوسيولوجية مدمرة للقضايا المذكورة كان ينبغي ان تولى ما تستحق من عناية. وأذكر هنا بعض الأمثلة من التقرير عن التنمية البشرية في العراق، وهي ملاحظات قدمت قبل نشر التقرير. يتناول تقرير التنمية البشرية دراسة الحالة العراقية وفق المعايير العالمية المعتمدة لتحليل ومقارنة وقياس مؤشرات التنمية. يقع التقرير في ستة فصول، مع ملاحق، وهو مدعم بمعطيات إحصائية، وجداول ورسوم بيانية تضفي على التقرير وضوحاً وتميزاً. يتناول الفصل الأول، وهو أكبر الفصول، مؤشرات التنمية من الناحيتين: الكمية والنوعية. ويقدم مقارنات مفيدة إقليمية وعالمية لتحديد موقع العراق، وهو موقع متدهور. المعطيات الكمية تعتمد غالباً على الأرقام الرسمية العراقية وحدها بما في ذلك معطيات فترة ما قبل 2003، على رغم وجود تباينات مع تقديرات وأرقام مؤسسات عالمية مثل البنك الدولي. وهذا التباين بحاجة الى تفسير. كما ان هناك نقداً متداولاً للاحصاءات الرسمية في العالم العربي، فهل يمكن تجاوزه؟ اتسمت القياسات الكمية بجديد ينبغي تثبيته في كل تقارير UNDP وهو التمايز بين المحافظات العراقية، بدل الاكتفاء بالفوارق المعتادة بين ريف وحضر أو ذكور وإناث فقط، ولعل النظام الفيدرالي واللامركزي المعتمد في العر اق شجع على رصد الفوارق الجهوية ذات الأهمية البالغة، ذلك ان الفوارق بين المناطق اكثر تدميراً لنسيج بناء الأمة من الفوارق بين الطبقات الاجتماعية. كما ان قضية تمكين المرأة بحاجة الى معالجتها من زاوية تحليل النظرة الإسلامية المحافظة الى المرأة التي بدأت تطفو سياسياً مع بدء الحملة الإيمانية في العراق خلال عقد التسعينات، وتفاقمها بعد 2003 بفعل تنامي نفوذ القوى المحافظة ذات الطابع الديني وهي سمة باتت عربية عامة. في الفصل الثاني يحلل التقرير الانتقال من نظام شمولي الى نظام ديموقراطي، واصفاً إياه بأنه انتقال مضطرب، وهو توصيف صحيح عموماً. وهذا القسم المهم، الذي يتناول العمليات الانتخابية، ونشؤ الفيدرالية الكردية، واللامركزية للمحافظات، ينتقل بعدئذ الى معالجة العنف المستشري. تنبغي الاشارة الى ان الشرط الأساس لأي انتقال ديموقراطي او شبه ديموقراطي هو توافر دولة مستقرة، اساسها احتكار وسائل العنف المشروع، واكتساب الشرعية بتفويض شعبي. وتفتقر الدولة الحالية الى اكتمال هذين الشرطين. فهي لا تمارس احتكاراً تاماً لوسائل العنف، كما ان شرعيتها مجزوءة بسبب الانشطارات الإثنية-المذهبية. لعل من المفيد ان تحوي التقارير القادمة دراسة للميليشيات باعتبارها نتاج التشظي السياسي، وفشل الاعتراف بشرعية الدولة، علاوة على نشوء ديناميكيات خاصة تتمثل في اقتصاد الميليشيات (اقتصاد الاتاوة بحسب الأيوبي). ويلاحظ ان حديث التقرير عن «سوسيولوجيا العنف» في العراق يقتصر على «مسألة الهوية»، وهي عامل صحيح ولكنها ليست وحدها الفاعلة. فهناك صراع على الموارد السياسية والاقتصادية (النفط) وهناك صراع داخل الجماعات المذهبية والإثنية على الزعامة، وهناك صراعات إيديولوجية ذات جذور تاريخية وأخرى إقليمية وعالمية ذات أبعاد استراتيجية. النشاط السياسي في العراق كما في المنطقة مر بمراحل عدة خلال العقود الأربعة الماضية: السياسة الإيديولوجية (صراع الطبقات، صراع الأمم الخ)، سياسة الهوية (الإثنيات والمذاهب)، ثم سياسة القضايا Issue politics، التي تنبئ بتشظي هذه الهويات (الطائفية والإثنية). يتناول الفصل الثاني الاقتصاد العراقي، وبالذات الانتقال الى اقتصاد السوق: انفتاح غير منضبط، قطاع عام فاشل بتركة ثقيلة، وقطاع خاص ضعيف. علاوة على أثقال الديون (إعادة الجدولة) وفشل إعادة البناء (الإعمار). كان بودي أن يحوي التقرير ايضاً قراءة عن آفاق تطور صناعة النفط، وتأثير العامل الريعي Rentier Effect باعتبار الموارد وسيلة للتنمية، مثلما هي اداة للهيمنة (نظرية: لعنة الموارد). ولعل من الافضل ان تكون معالجة الفساد المالي العراقي (الافظع قياساً لدول المنطقة) واردة هنا في هذا الفصل بدل تناوله في الفصل الثالث. أخيراً، الفصل الثالث يعالج الوضع الاجتماعي: العنف، التهجير القسري، العراقيين في الخارج. المعروف سوسيولوجياً، ان الهجرة هي احتجاج على اللامساواة. وكان ديدن الهجرة في التسعينات الهرب من الانهيار الاقتصادي، ومن القمع السياسي. اما الان فان الهجرة هي دفاع عن الحق الاول، حق الحياة. دعوني ألاحظ ان جل وليس كل المهاجرين هم من الفئات الوسطى المتعلمة. وان الهجرة المستمرة لهذه الفئات منذ 1980 (عام الحرب العراقية- الايرانية) وحتى اليوم، أدت الى نتيجة سوسيولوجية سياسية: عدم تراكم الطبقات الوسطى الحاملة للمعرفة والخبرة والملكية، وبالتالي التضخم النسبي للفئات الدنيا الميالة للعنف، وهي أصلاً ميليشيا قائمة بالفعل بالقوة.