هل كانت هناك لحظة واحدة، في الدورة الراهنة من الصراع الدموي في غزة، وجد فيها العرب والإسرائيليون أنهم يقفون معاً، يتقاسمون الشعور بالألم والخوف، ويتقاسمون الأمل في النجاة؟ لا أتحدث عن تواصل بين الموجوعين هنا والموجوعين هناك، ولا بين الخائفين أو الآملين على جانبي سياج الرعب. أتحدث عن مشترك لم يجر بشأنه تواصل، ويمكن أولاً أن يكون موضوع تواصل في المستقبل. إن لم تكن هناك مشتركات من هذا القبيل فالأمل بالانعتاق من دورات الدم واهٍ. هنا بشر يدفعهم خوفهم إلى أن ينكروا بشرية الواقفين هناك، على الجانب المقابل، الذين يماثلونهم في الخوف وفي غلظة القلب التي تتولد عنه. ودليل ذلك هو التباهي بعدد القتلى من الفريق الآخر، وكأن المغدورين أهداف في مباراة للكرة. أما أسباب ذلك فكثيرة، وقد يكون أهمها اليوم مبدآن: مبدأ يهودية الدولة عند الإسرائيليين، الذي أرساه آرييل شارون في حزيران (يونيو) 2003 ومبدأ وقفية أرض المسلمين، في صياغته العثمانية، عند الفلسطينيين في حماس. يبدو المبدآن أصوليين ميثولوجيين، كأن أحدهما تولد عن الآخر. وهذا التماثل يجعل من الصعب التوصل بين الطرفين إلى حل وسط تاريخي يستحيل من دونه وقف إرهاب دولة إسرائيل وإرهاب منظمة حماس، ووقف نزيف الدم العربي واليهودي على أرض فلسطين التاريخية. مبدأ يهودية إسرائيل، الدولة الوحيدة في العالم التي تقررت حدودها أيام بن غوريون بالمدى الذي يبلغه جنودها، وتتقرر اليوم بالمدى الذي يبلغه مستوطنوها، هو عنوان ثلاثية مركبة منه ومن مبدأ سارعت السلطة الفلسطينية أيام الانخداع بأوهام أوسلو إلى القبول به في سذاجة انهارت أوهامها باغتيال إسحق رابين وموت ياسر عرفات، وهو المبدأ القائل بأن الأراضي الفلسطينيةالمحتلة في 1967 أراض متنازع عليها، ومن مبدأ ثالث هو السلام مقابل السلام، المبدأ الذي قام على جثة القرارين الأمميين 181 و242، ليجد الفلسطيني العادي نفسه أمام ثلاثية صهيونية عنصرية في جهة، وأمام بديلين فلسطينيين في جهة مقابلة، لا يسمح أي منهما بالمضي، ولو خطوة واحدة باتجاه حل وسط تاريخي مع الشركاء في أرض فلسطين: إذعان السلطة الوطنية والرامبوية الحمساوية، وليجد الإسرائيلي العادي نفسه في بيئة سياسية عنصرية تحتم عليه القبول بتعنت حكومته وبوحشية جيشه وبلاأخلاقية لصوص الأراضي من المستوطنين من بني جلدته. وربما كان أصل مبدأ وقفية أرض المسلمين في فلسطين يعود إلى ما ذكره السلطان عبد الحميد الثاني في رسالة وجهها إلى تيودور هرتزل قال فيها: «إني لا أستطيع أن أتخلَّى عن شبر واحد من الأرض، فهي ليست مِلْك يميني، بل مِلْك الأمة الإسلامية التي جاهدت في سبيلها، وروتها بدمائها، فليحتفظ اليهود بملايينهم، وإذا مزقت دولة الخلافة يوماً فإنهم يستطيعون آنذاك أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن». وواضح هنا أن السلطان أسس مبدأ الوقفية على ما يعرف باسم «حق الغزو»، ذلك الحق الذي ألغاه القرار الأممي الرقم 3314، وهو ما يفهم من حديثه عن الجهاد في سبيل الحصول على تلك الأرض التي ارتوت بدم من غزوها من المسلمين الأوائل، الذين اعتبر العثمانيون منذ العام 1516-1517 أنهم ورثتهم الشرعيون. ووفقاً لما جاء في كتاب «اليهود في مصر العثمانية» لجاك لانداو، كان بين أولى القرارات السلطانية (الفرمانات) التي أصدرها سليم الأول في القاهرة قرار يحظر على اليهود تملك الأرض أو البناء عليها في شبه جزيرة سيناء. واضح أن عبد الحميد كان يرفض التنازل عن فلسطين لليهود حرصاً منه على التكامل الإقليمي للسلطنة العثمانية التي انهارت في 1922 وبعد هذا الانهيار، ألغيت مؤسسة الخلافة العثمانية في 1924، وأبطل بذلك القانون الذي حرص عبد الحميد الثاني على الامتثال له، وإن كانت رسالته إلى شيخه في دمشق محمود أفندي أبو الشامات تشي ببعد ديني في موقفه القانوني، عندما اعتبر رفضه المشروع الصهيوني في فلسطين رفضاً لما وصفه بأنه «العار الأبدي الناشئ عن تكليفهم بإقامة دولة يهودية في الأراضي المقدسة فلسطين». وهو يشير هنا إلى تكليف من مجلس وزرائه قابله هو بالرفض للأسباب التي ذكرنا. وربما بدا أن هذا البعد الديني طغى على البعد القانوني في مبدأ الوقفية الإسلامية، بعد رحيل الشيخين أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي. وقد فهمتُ من عبد العزيز الرنتيسي، عندما كان الرجل الثاني في حماس، يوم التقيته في منزله في خان يونس في العام 1997، أن هذا المبدأ هو العائق الأول بوجه كل حمساوي يريد الاعتراف بالأمر الواقع في فلسطين التاريخية يوم الرابع من حزيران (يونيو) 1967. وكان شعوري –مجرد شعور- أنه كان يتحدث عن عقبة تمنعه ورفاقه من التوصل إلى تسوية لا يقبلون التوصل إليها بغير ما يخالف معتقداتهم «الدينية». لكن حدثاً هامشياً جسَّد لي خطورة التمسك بهذا المبدأ القانوني الذي اكتسب صبغة دينية لا أساس لها. كعادتي عندما أريد ترتيب أفكاري، سدَّدت نظرة سريعة إلى شيء ما في الركن الأيمن للغرفة التي لم يكن فيها سواي أنا والرنتيسي. وانتفض الرنتيسي مستديراً إلى حيث كنت أنظر، في حركة نمر يستعد للوثوب على عدو تنبه إلى وجوده وراءه. تواصل الحوار هادئاً، بعد ثوان من التوتر، أما أنا فتبينت، في حركة الرنتيسي المتحفزة، ملامح الشبح الذي ظل يطارده حتى ظفر به بعد سبع سنوات من لقائنا. كان شبحاً مركباً من رفضين مسلحين، وهذا الشبح ذاته خطف المستوطنين الثلاثة، مفجراً الدورة الراهنة من العنف الدموي في غزة. بين الفريقين، الفريق المستمسك بالثلاثية الصهيونية المعنونة اليوم بيهودية الدولة الإسرائيلية، والفريق المستمسك بمبدأ عبد الحميد الثاني، فضاء يمكن قوى السلام أن تعمره وتنطلق منه باتجاه حل وسط تاريخي. وفي رد السفير السعودي في لندن الأمير محمد بن نواف على ما نشره ديفيد هيرست في «هفنغتون بوست» بخصوص الموقف المشتعل في غزة إشارة إلى موقف اليهودي العادي، داخل إسرائيل وخارجها، إلى موقف الإنسان الذي يتبرأ من العنف، ولا يقبل أن ترتكب المذابح باسمه، باعتباره «بصيص أمل» في السلام، فهل يمكننا اجتذاب الملايين من اليهود العاديين ومن العرب العاديين إلى ذلك الفضاء الوسط؟ قد لا يتيسر لنا، نحن الباحثين عن حل وسط تاريخي بين العرب واليهود، أن نفعل ذلك إلا إذا تجاوزنا الرفضين المسلحين باتجاه موقف موحد من الموت، باتجاه اقتسام لحظة الخوف والألم. وهذا ما تحول دونه العنصرية وحدها، ولا شيء سواها، فالجثث المتناثرة في الفضاءين الإسرائيلي الرحب الواثق والفلسطيني المحصور المنقبض، هي جثث موتانا. كلهم موتانا: من المستوطنين المراهقين الثلاثة، نفتالي وجيلياد وإيال، إلى جنود بلا أسماء ولا وجوه ولا قلوب، ومن أطفال فلسطينيين يجلّون عن الحصر، إلى إرهابيين بلا أسماء ولا وجوه ولا قلوب. كلهم موتانا. منذ سمعتُ أنور السادات يتحدث في 1972 عن إسرائيل باعتبارها «غزوة صهيونية» جدَّد بها الغرب الصناعي الحروب الصليبية، وأنا استعيد ما جاء في رحلة ابن جبير (طبعة دار الهلال ص234) تحت عنوان «الحرب واتفاق النصارى والمسلمين» حيث يشير إلى الممالك الصليبية باسم «النصارى»: «ومن أعجب ما يحدث به أن نيران الفتنة تشتعل بين الفئتين مسلمين ونصارى، وربما يلتقي الجمعان ويقع المصاف [الاصطفاف للقتال] بينهم ورفاق المسلمين والنصارى تختلف بينهم دون اعتراض عليهم». ثم يضيف: «واختلاف القوافل من مصر إلى دمشق على بلاد الإفرنج غير منقطع. واختلاف المسلمين من دمشق إلى عكة كذلك. وتجار النصارى أيضاً لا يُمنع أحد منهم ولا يُعترض. وللنصارى على المسلمين ضريبة يؤدونها في بلادهم، وهي من الأمنة على غاية. وتجار النصارى أيضاً يؤدون في بلاد المسلمين على سلعهم، والاتفاق بينهم والاعتدال في جميع الأحوال». لكن عبارته الأشد وقعاً، هي تلك التي يقول فيها: «أهل التجارة في تجارتهم، وأهل الحرب مشتغلون بحربهم، والناس في عافية، والدنيا لمن غلب». * كاتب مصري