يعود أحد أسرار قوة النظام الأسدي المترنح إلى نظرة إلى سورية ترى فيها كياناً هشاً لا يحتمل أي خضة أو دعك. انتبه، كُتِبَ على الصندوق الكرتوني المغلق، مواد قابلة للكسر! انتبه، هذه سورية! على الأمور أن تبقى على حالها دائماً وإلا انعطب الكيان وانفرط! يتغنى الجميع بالتعددية التي تشكل معنى الكيان السوري. «فسيفساء شرقية» بديعة يجب الحفاظ عليها لأنها مصدر الغنى والجمال. الواقع أن الفسيفساء جميلة حقاً تثير في نفس المشاهد ما يشبه النشوة. تصنع من مواد قابلة للكسر، فلا يمكن التلاعب بنسقها المستقر إلى الأبد على جدران القصور والمعابد وقببها الشاهقة. والحال أن الكيان السوري الحديث النشأة قد دُعِك طوال تاريخه بما يكفي للتأكد من أنه ليس بالهشاشة التي يوصف بها. إذا كان النصف الأول من هذا التاريخ قد انقضى في مسلسل الانقلابات العسكرية والصراع الدولي على سورية، فلم يخلُ نصفه الثاني من خضات دورية ودعكٍ متواصل تحت غطاء زائف من «الاستقرار» الشهير الذي وهبه للسوريين صاحب آخر انقلاب عسكري في تاريخ سورية. لم يشعر حافظ أسد بلحظة أمان واحدة طوال فترة حكمه المديد، لأنه أكثر من عانى من فقدان الشرعية. كان الرجل واعياً بأنه يفتقد الشرعية الحزبية الثورية في نظام 8 آذار الذي تأسس على الموقع القيادي لحزب البعث. وكان واعياً لافتقاره إلى شرعية اجتماعية تقليدية قامت على النسق الطبقي القديم، فهو ابن عائلة ريفية متواضعة عاشت على الهامش. بيد أن المصدر الأهم لوعيه الشقي إنما يعود إلى انتمائه إلى الطائفة العلوية (نحو 12 في المئة من السكان). لم يؤمن حافظ يوماً بأنه يستحق الموقع الأول في السلطة في بلد أكثريته من المسلمين السنّة. كان يرى أنه قد استولى بالقوة المسلحة والتآمر على ما ليس من حقه. وهذا ما دفعه إلى تحصين غنيمته من كل تآمر، فأسس مملكة قائمة على الرعب المحض. ثم أخذ يكتشف تدريجاً المزايا الجيو-سياسية التي تتمتع بها سورية، فمضى في استثمارها إلى الحد الأقصى لإدامة سيطرته الفاقدة الشرعية. إسرائيل... لبنان... تركيا... العراق... الاتحاد السوفياتي... الولاياتالمتحدة... إيران... السعودية... جنة من الفرص يمكن التلاعب بها ببراغماتية تليق بثعلب ماكر. لكن كل ذلك معرض للخطر ما لم يحظ بالشرعية المفتقدة في الداخل. فقام مبكراً بأداء فريضة الحج (وتبعه في ذلك كل من أخيه رفعت وابنه باسل) واستصدر فتوى أقرت بإسلام العلويين. هل منحه ذلك الشعورَ بالأمان؟ لا. لذلك كان عليه أن يعتمد على الكذب والتمويه. ألغى أي خصوصية دينية للعلويين، لكنه اعتمد في حكمه بالقبضة الحديدية على ضباط علويين بصورة رئيسة، ودفع بآلاف الشبان من القرى العلوية الفقيرة إلى الانتساب إلى أجهزة الأمن. وشجع في المقابل على بناء المزيد من الجوامع الباذخة بتمويل خليجي. فتحول الأمر إلى نوع من التكاذب الشامل والتقية الماسونية: وحدة وطنية «علمانية» بلا تنوع ديني. لكن دين البلد الرسمي هو الإسلام السنّي. وكرس ذلك في دستوره شرطاً لرئاسة الدولة، في حين أنه اعتمد في السر على العصبية الطائفية الضيقة لإدامة عرشه. في 1980 أحس الأسد بأن الأرض تميد من تحته، فالكابوس الذي طالما قضّ مضجعه قد تحقق. قام التمرد عليه باسم الإسلام السنّي في حلب وإدلب وحماة وبعض المدن الأخرى بما في ذلك اللاذقية. هرب من انتمائه الأقلوي بالإفراط في العروبة والاستيلاء على القضية الفلسطينية. ومتَّنَ تحالفاته الاستراتيجية مع إيران الثورية والاتحاد السوفياتي في طور انحداره، وقضى على دور الجيش في الحياة السياسية بعدما أفاق من غيبوبته في 1984، فأرسل كبار ضباطه إلى المنفى. وحين سمح لبعضهم بالعودة مقصوصي الأجنحة، بدأ يعد العدة لتوريث ابنه البكر باسل بعدما أبعد أخاه الطموح رفعت وأولاده نهائياً خارج جنة السلطة. من تلك اللحظة وصاعداً ستدخل سورية عصرها الكابوسي حيث أجهزة الأمن المنتفخة بمثابة حكومة الظل الحقيقية التي تتدخل في كل جزئيات حياة المجتمع وأفراده، ليتفرغ حافظ للسياسة المحضة، وهي في الحالة السورية السياسة الخارجية فقط، وهي قائمة على اللعب في الدول المجاورة مع الكبار بوسائل أمنية أساساً كالإرهاب والابتزاز وليّ الذراع. ينقل عن الديكتاتور العجوز في أيامه الأخيرة اعترافه بأن حدثين فقط فاجآه ولم يكن متحسباً لهما: موجة الثورات الديموقراطية في أوروبا الشرقية ومصرع نجله باسل الذي كان يعد العدة لتوريثه البلاد. إنها سخرية الأقدار: ابنه الثاني بشار الذي طُبِخَ على عجل وريثاً لأبيه، فشل فشلاً ذريعاً في مواجهة الموجة الديموقراطية الثانية التي اجتاحت هذه المرة بلاد العرب. لكنه نجح في شد العصبية الطائفية التي قام عليها النظام الأمني لأبيه، فأصبح كل انشقاق عن هذه العصبية يحاصر بقسوة من جانب أهل المنشق نفسه أكثر من السلطة الغاشمة. بصرف النظر عن الطريقة التي يمكن أن تحل بها المشكلة العلوية في سورية ما بعد الأسد، يبدو أن ما سمّيت بالمشكلة الطائفية ستندثر مع هذا الحل. فإذا كانت مجازر طائفية بشعة كتلك التي وقعت في بابا عمرو وكرم الزيتون والحولة والقبير فشلت في استدراج الردود المضادة، فهذا يعني أن الفسيفساء السورية بخير. المهمة العاجلة هي في إيجاد الوسائل المناسبة لإدماج العلويين مجدداً في الجسم الوطني. لا يتمثل الحل في إعادة العلويين إلى الهامش بعدما دفع عهد بشار – مخلوف بهم إلى واجهة المشهد الاجتماعي والثقافي بعد طول كبت وتغييب في عهد أبيه، بل في ترميم ما تحطم من قطع الفسيفساء. * كاتب سوري