احتار الزميل حازم صاغية فى وصف نظام الرئيس السوري بشار الأسد، وما إذا كان نظاماً تنقصه النزعة الديموقراطية أم أنه نظام ينحو باتجاه التوتاليتارية («الحياة» - 2 نيسان/أبريل)، وهي حيرة قد يكون لها ما يبررها قبل 15 آذار (مارس) الماضي، باعتبار أن الأسد منذ أن تسلّم السلطة في تموز (يوليو) 2000، حاول أن يقدّم نفسه كما لو كان زعيماً إصلاحياً، في حين أنه لم يكن سوى امتداد لنظام أبيه الراحل حافظ الأسد، بشموليته وسلطويته، ولكن في ثياب شابة. بيد أنه منذ اندلاع الانتفاضة السورية قبل ثلاثة أسابيع، وبعد سقوط القتلى والجرحى، لا يمكن وصف النظام السوري بأقل من كونه نظاماً شمولياً لا يختلف كثيراً عن نظامَيْ حسني مبارك وزين العابدين بن علي. فما حدث في سورية عام 2000 لم يكن بأي حال انتقالاً من نظام سياسي الى آخر، وهذه بداهة، وإنما كان تجديداً لنظام سلطوي تولى السلطة قبل أربعة عقود، وقام بتسليمها لوريث عبر انقلاب دستوري (أبيض) جرى التحضير له طيلة التسعينات، وتم بعدها إعادة طلاء أعمدة النظام، وهو ما يعني فعلياً أنه لا توجد شرعية حقيقية لهذا النظام الجديد سوى شرعية «الإرث» السياسي انطلاقاً من رابطة الدم والعصبية. وإذا كان الأب حافظ الأسد قد استمد شرعيته من تاريخه وكاريزميته وسياسته الخارجية، فإن الابن يفتقد أياً من هذه المقوّمات الثلاثة، باستثناء ما ورثه عن أبيه من عناد يصل أحياناً إلى حد الغرور، فهو لم يحقق أيَّ إنجازات خارجية، سواء في الجولان المحتل أو بتحقيق الوحدة العربية الشاملة التي يضعها حزب «البعث» شعاراً له، كما أنه لم يقم بأي إصلاحات داخلية قد توفر له شرعية جديدة. وما كانت التظاهرات التي خرجت مؤيدة للابن عشيةَ رحيل الأب، والتي حملت شعاراً ذا مغزى هو «قائدنا، مثالنا، أملنا»، سوى تكريس لمفهوم الوراثة المشروطة التي كانت ترى في بشار «الأمل» الذي سوف يستكمل مسيرة الأب «القائد»، وبمثالية الابن الأكبر باسل، الذي رحل فجأة ولكنه خيّب آمال الجميع. صحيح أن بشار حاول تكريس صورته طيلة التسعينات، سواء كمفاوض سياسي، عطفاً على تولّيه إدارة ملف لبنان، رغم أن نجاحه لم يكن نتيجة مهاراته السياسية بقدر ما ارتبط بنفوذ أبيه وسطوته داخل لبنان آنذاك، أو كمناهض للفساد، من خلال محاربة الفساد البيروقراطي الذي استشرى في حكومة محمود الزعبي وكانت نتيجته فضيحةَ قضيةِ «الإيرباص» التي راح الزعبي ضحيتها لاحقاً، إلا أن طريقة إدارته للشأن الداخلي على مدار السنوات العشر الماضية أكدت أن قدراته السلطوية تفوق أيَّ حديث عن نواياه الإصلاحية. خلال سنواته الخمس الأولى، وعد بشار الأسد بتحقيق إصلاحات سياسية واجتماعية تلبي طموحات السوريين الذين حُرموا طيلة حكم أبيه من الخبز والحرية معاً. وقد صدّق كثيرون هذه الوعود، فظهر ما بات يُعرف ب «ربيع دمشق»، الذي لم يستمر سوى ستة أشهر فقط، أُغلقت بعده جميع النوافذ السياسية، وتم اعتقال الناشطين السياسيين وقادة المعارضة، وقُمعت حرية التعبير ودخل السوريون في حقبة جديدة من الترهيب السياسي والأمني. ودعْكَ ممّا ساقه البعض عن كون إجهاض «ربيع دمشق» قد جاء نتيجة للصراع بين الحرسين القديم والجديد، فتلك رواية يتم ترديدها من أجل توفير غطاء وشرعية للوريث باعتباره مناضلاً إصلاحياً، فقد نجح الوريث لاحقاً فى إقصاء الحرس القديم ورغم ذلك لم يتحقق الإصلاح الموعود. وفي الخمسية الثانية جاءت الوعود نفسها، عبر المؤتمر القطري العاشر لحزب «البعث»، وذلك بالحديث عن: إطلاق الحريات، وإلغاء حالة الطوارئ، والسماح بإنشاء الأحزاب السياسية، والإفراج عن المعتقلين السياسيين... إلخ، في حين كان الهدف الأساسي للمؤتمر هو «قبر» الاشتراكية البعثية من أجل تمرير التوجه الاقتصادي الجديد لبشار الأسد ودائرته الضيقة، التي سوف يتمدد دورها لاحقاً كي تصبح القوة المهيمنة الوحيدة على الاقتصاد السوري، من دون أيِّ تحقيق للعدالة الاجتماعية التي أوصى بها المؤتمر ذاته تحت شعار اقتصاد السوق الاجتماعي. ورغم ذلك، فقد حاول السوريون تصديق الأسد وإعطاءه فرصة جديدة لاختبار جدية نواياه الإصلاحية، خاصة في ظل حالة التعبئة والحشد الإعلامي التي شارك فيها مثقفو النظام وسدنته. ولكن بانقضاء الخمسية الثانية من حكم بشار الأسد، كانت النتيجة هي: أكثر من 11 بالمائة من السوريين يعيشون تحت خط الفقر، في حين وصل حجم البطالة إلى حوالى 9 بالمئة، بالإضافة إلى نحو 9 بلايين دولار هي قيمة الدين الخارجي، واحتلت سورية المرتبة 138 في معدل الفساد العالمي بين حوالى 180 دولة. أما سياسياً، فلا يزال قانون الطوارئ مفروضاً منذ عام 1963، ولم يتم إصدار القانون الجديد للأحزاب السياسية الذي صدر الإعلان عنه قبل خمس سنوات، ناهيك عن القيود الصارمة المفروضة على حرية الإعلام والمطبوعات (وذلك بموجب قانون المطبوعات السيئ السمعة، الصادر عام 2001، والذي يفرض عقوبات رادعة على حرية النشر وإبداء الرأي تتراوح بين الحبس من عام إلى ثلاثة أعوام بالإضافة إلى غرامة قد تصل إلى حوالى مليون ليرة سورية أو ما يعادل 20 ألف دولار أميركي)، وهي حال لا تختلف كثيراً عما تقوم به الأنظمة الشمولية شرقاً وغرباً. ومع بداية الخمسية الثالثة، انطلقت الانتفاضة السورية في درعا وعمّت بقية المدن والأرياف السورية، بعدما تأكد تأجيل تنفيذ الوعود الإصلاحية للرئيس السوري من خلال أفعاله السلطوية طيلة السنوات العشر الماضية، فبالنسبة الى كثيرين من السوريين، بلغ السيل الزُّبى، وانقضت فرصتان لم يستفد منهما بشار الأسد، الذي فشل في تلبية طموحات وتوقعات الشعب السوري منه. وزاد الطين بلّة ما قامت به قوات الأمن السورية في مواجهة حركات الاحتجاج والتظاهرات الاخيرة، فقد وقع المحظور وحدثت القطيعة بين النظام والشعب. كان مؤسفاً بعد مرور أكثر من عشرة أيام على قيام الانتفاضة السورية، أن يخرج الرئيس السوري، وبنبرة لم تخلُ من غرور معتاد، ليكرر وعوده نفسها، وكأن شيئاً لم يحدث. ولم يبدُ عليه الغضب لأعداد القتلى والجرحى الذين سقطوا، في حين اعتبرهم مجرد «قلة مندسّة ومأجورة»، لذا فقد توعد بالنيل ممن يقف وراء «المؤامرة الكبرى» التي تحاول زرع الفتنة في سورية. وهي اللغة نفسها والمفردات نفسها، التي باتت طقساً أساسياً في تراجيديا السقوط التي تمر بها أنظمة عربية مهتزة، فقد حمل خطاب الأسد الوعود نفسها التي حملها من قبله نظامان عتيقان رحلا عن السلطة في غضون أيام في تونس ومصر. خطاب الأسد كان بمثابة فرصة أخيرة لتصحيح المسار، ولكنه ضيّعها عامداً. وهو أشبه بخطاب الرئيس المصري السابق حسني مبارك الذي ألقاه في الأول من شباط (فبراير) وكاد أن يشقّ الأمة المصرية نصفين بين متعاطف معه ورافض له، ولكن بعد حوادث القتل التي وقعت في دوما واللاذقية وبانياس ودرعا، يُخشى أن يكون الوضع في سورية قد صار شبيهاً بما حدث مع المتظاهرين المصريين حين هاجمتهم البغال والجمال في ميدان التحرير فيما عُرف لاحقاً ب «معركة الجمال» وكانت المسمار الأخير في نعش حكم مبارك. ربما سيصمد نظام بشار الأسد أكثر من غيره، ليس لصدق نواياه وجديته الإصلاحية، وإنما فقط بقوة البطش. تبقى ثلاث نقاط مهمة، أولها ما تقوم به الآن القوى السياسية والكوادر الفكرية والثقافية العربية والسورية، فخلال الأسابيع الماضية امتلأت الفضائيات العربية بمثقفين، أو كذلك يوصفون، من سوريين وعرب، يدافعون عن نظام بشار الأسد ويروّجون لقدرته على عبور الأزمة الراهنة باعتباره نموذجاً مختلفاً عن بقية النماذج العربية. وللأسف، فإن بعضهم قد عُرف عنه في السابق دفاعه الشديد عن الحقوق والحريات، فما أن وقعت الانتفاضة حتى لاذ بالصمت. ثانياً: يراهن البعض على أن الجيش السوري لن يصطف مع الشعب إذا ما تأزّمت الأمور، وأن قياداته سوف تنحاز لصالح النظام، إن لم يكن ولاءً فبداعي المصلحة المشتركة، وهو أمر قد يبدو صحيحاً بالمقاييس العادية، ولكنه ليس كذلك بمقياس الثورات، وهو ما رأيناه في تونس ومصر واليمن. ثالثها: المبالغة في التخوف من اندلاع نزاع طائفي سني – شيعي في حال قيام الثورة السورية، وهو أمر فضلاً عن سذاجته في بلد لم يشهد خلال العقود الأربعة الماضية تعصباً طائفياً أو فرزاً إثنياً، تكذّبه الوقائع، فأفضل ما فعلته الثورات العربية أنها أعادت صهر وإنتاج الهوية الوطنية في البلدان العربية على نحو مبهر، وذلك بعد أن توحّد الجميع حول هدف واحد هو نيل الحرية والكرامة. * أكاديمي مصري - جامعة دورهام، بريطانيا. [email protected]