يقول التاريخ عندما بويع الملك عبدالعزيز آل سعود ملكاً على الحجاز، أصدر قراراً في 8 كانون الثاني (يناير) من عام 1926 بتشكيل مجلس للشورى مؤلف من علماء الحجاز وتجارها وأعيانها، ليشارك في إدارة البلاد، وليكون وسيطاً بينه وبين الشعب، وقد ألحقه - رحمه الله - بتاريخ 31 آب (أغسطس) عام 1926 بإعلان ما عُرف ب «التعليمات الأساسية للمملكة الحجازية»، تولت صياغته جماعة مؤلفة من ممثلين عن مختلف أنحاء الحجاز، أو ما يُسمى ب «الجمعية العمومية»، وهي التي قررت أن الحجاز «ملكية، إسلامية، نظامها شورى، مستقلة في داخليتها وخارجيتها، عاصمتها مكة، وإدارتها موكلة إلى عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، الذي هو مقيّد بالشرع الإسلامي»، إلى جانب ما نصّت عليه التعليمات الآتية من إقامة مجالس للشورى في مكة والمدينة وجدة، ومجالس أخرى للقرى والقبائل، ليعقبها انعقاد أولى جلسات مجلس الشورى في بداية 1927، فكيف افتتحت الجلسة؟ افتتحها الملك عبدالعزيز بخطبة من أروع الخطب التي قيلت في الحكم الديموقراطي الحديث، ومما جاء فيها قوله - رحمه الله: «لا أريد أن أستأثر بالأمر في بلادكم دونكم، وإنما أريد مشورتكم في جميع الأمور، إن العرب تقول: الرجال ثلاثة، رجل ونصف رجل ولا رجل، فالرجل من كان عنده رأي ويستشير الناس في أموره، ونصف الرجل من ليس عنده رأي ويستشير الناس، وليس رجل من لا رأي له ولا يستشير الناس... لا أريد أوهاماً وإنما أريد حقائق، أريد رجالاً يعملون بصدق وعلم وإخلاص، حتى إذا أشكل عليّ أمر رجعت إليهم في حله، وعملت بمشورتهم... أريد منهم أن يعملوا لما فيه المصلحة العامة، وأريد الصراحة في القول والإخلاص في العمل، لأن ثلاثة أكرههم ولا أقبلهم: رجل كذّاب يكذب عليّ عن عمد، ورجل ذو هوى، ورجل متملّق، فهؤلاء أبغض الناس إليّ». وعلى ضوئه، طلب الملك من رعاياه الجدد العمل على الإسراع في انتخاب من يمثّلهم في مجلس الشورى الأهلى الذي أشار إليه في خطبته، ثم رفعه إليه ليرى نتيجة الانتخاب فيعتمدها، إلى هذا الوقت والملك يتحدث بوصفه سلطاناً لنجد قدم إلى الحجاز ليقيم العدل بين أهله إلى أن يختاروا من يشاؤون ليسودهم، ولكن ما حدث أن أهالي مكة اجتمعوا بعد جلاء علي بن الحسين عن جدة، وقرروا اختيار عبدالعزيز ملكاً على الحجاز، وكتبوا إليه يبايعونه على المُلك، وهي البيعة التي وقّع على صورتها عبدالعزيز، ليسرع الناس في اليوم التالي من التوقيع إلى باب الصفا من المسجد الحرام ليبايعوا ملكهم على السمع والطاعة بموجب كتاب الله وسنة رسوله، تلاها الإعلان عن لقب رئيس حكومة الحجاز الجديد «ملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها»، اللقب الذي استقرَّ على أن يصبح «ملك المملكة العربية السعودية» بإعلان نبأ توحيد البلاد في عام 1932، بتحديد لثلاثة: سمة الدستور لنظام الحكم بالملكية، وهوية الوطن بالانتساب إلى العروبة، واستيفاء الحق بالانتماء إلى الاسم. لتدور السنون دورتها، وبعد أكثر من ثمانين حولاً من التاريخ البعيد لتلك الخطبة الدستورية، يلتقي الجميع من قادة وأبناء وشيوخ في بيت الله العتيق، ليؤدوا صلاة الميِّت على الفقيد وحامل وصية أبيه الأمير نايف بن عبدالعزيز، فالأمير وإن كانت ولادته بعد إعلان التوحيد، لكنه كان الرجل الذي أتى المؤسِّس على ذكره، ذا رأي ويستشير الناس، صادقاً لا يتملّق الغير ولا يتبع هواه، أمّا مكة فباقية على العهد دائماً، حافظة لوعودها، حاضنة بترابها بقعة القداسة التي تمنّى نايف أن يجاور في موته بيت الله فيها فكان له ما أراد، ومنح المحِب تجلّداً على فراقه، وسيعيد الوطن ترتيب أوراقه كما عوّدنا، وستظل ورقة رجل الدولة نايف بن عبدالعزيز حاضرة في غيابها، فكل من يعمل بجد وتواصل مع الله، لا يضيع الله له عملاً، ولكن تبقى أكثر اللحظات وجعاً من نصيب المودِّع الوفي، فرحم الله من رحل، وصبّر الله من ودّع. [email protected]