تزامن إحياء جلسات الحوار الوطني اللبناني مع مناسبتين لهما صلة فكرية وسياسية بمضمون الحوار وبمحفزاته. المناسبة الاولى هي ذكرى مرور ثلاثمئة عام على ولادة المفكر الاوروبي جان جاك روسو، والثانية هي احتدام الصراع الانتخابي حول رئاسة الجمهورية المصرية. الحدثان يذكران بأهمية فكرة العقد الاجتماعي او الوطني وأثرها على ترسيخ الديموقراطية في دول العالم ومجتمعاته، بخاصة المجتمعات ذات الطابع التعددي والتي تمر بالمراحل الانتقالية. لقد كانت ذكرى ولادة روسو مناسبة لتجديد الحوار حول مسألة المواثيق السياسية. وعلى رغم ان روسو لم يكن الاول ولا كان الاخير في الدعوة الى العقد الاجتماعي، فإنه اعتبر، من بين مفكري الغرب، الاكثر وضوحاً وإصراراً على مزايا هذا العقد وعلى تبيان مقدماته ومسوغاته والنتائج المترتبة عليه ومن ثم على حاجة الامم، من دون استثناء، اليه. فلا تزال المحاولات التي بذلها للتوفيق بين الحرية الشخصية والاجماع الوطني والارادة الحرة في اطار العقد الاجتماعي والديموقراطية المباشرة تثير الاهتمام الشديد والمناقشات المستمرة. وكان الاثر الذي تركه روسو على الفكر السياسي العالمي كبيراً الى درجة ان هذا الفكر بات، كما وصف، «اسير فكرة العقد الاجتماعي، يتحرك في حلبتها بصورة حصرية». وتكتسب العودة الى فكرة الميثاق كأساس اخلاقي يتجاوز الدستور من حيث قيمته في حياة الشعوب وفي تحديد خياراتها ومصائرها، تكتسب اهمية مضاعفة في المنطقة في ضوء التوترات التي بدأت تغشى ساحة العمل السياسي في مصر بعد ان تطور الصراع السياسي فيها الى مجابهة بين متنافسين متباعدين على اكثر من صعيد: واحد يمثل المؤسسة العسكرية، وآخر يمثل المؤسسة الدينية. واحد يمثل النخبة الحاكمة وآخر يمثل النخبة المضادة. واحد يؤكد الاستقرار، وآخر يشدد على التغيير. ويحتدم هذا الصراع بصورة تنذر بالأخطار بخاصة انه يمثل صراعاً مثلث الاضلاع لأنه يشمل ايضاً القوى اليسارية والليبرالية المصرية التي لم تتمكن من ايصال مرشح لها الى جولة الاعادة. هذه المجابهة جديرة بأن تسترعي المشاركين في «اعلان بعبدا» وأن يستفيدوا من دروسها. فهي تقدم نموذجاً للأزمات السياسية التي يمكن التقليل من حدتها ومن اخطارها فيما لو تبنت الاطراف المعنية بها النهج الميثاقي الذي يحدد اصول التنافس بين اطراف اللعبة السياسية. وبصرف النظر عن العلاقة بين روسو وفكرة العقد الاجتماعي او السياسي، رب قائل بأن اللبنانيين لا يحتاجون للعودة الى روسو او الى الاتعاظ بعثرات الاشقاء الانتخابية في مصر او مصائب الاشقاء الاحترابية في سورية لكي يدركوا اهمية المواثيق والعهود. فالنخبة السياسية اللبنانية، بخاصة في المرحلة التكوينية لدولة الاستقلال، تأثرت بفكرة العقد-الميثاق. وشكلت هذه الفكرة اساساً فكرياً ونقطة انطلاق لأية مبادرة اصلاحية في البلاد. ولم يخرج الرئيس ميشال سليمان عن هذا التقليد اذ دعا بعد انتهاء جلسة الحوار الوطني الاخيرة الى اعتبار مضمون ما دعي «اعلان بعبدا» كوثيقة وطنية وميثاقية، واعتبار ما جاء في هذا الاعلان من مبادئ بمثابة بنود ميثاقية والزامية لسائر اللبنانيين من دون استثناء. ومن المرجح ان تخرج طاولة الحوار المقررة يوم الخامس والعشرين من هذا الشهر باستنتاجات مشابهة حول ضرورة التزام الزعماء والمواطنين في لبنان بما يتم الاتفاق عليه في بعبدا. لبنان اذاً لديه تجربة واسعة في حقل العمل الميثاقي يمكن الرجوع اليها لحماية اللبنانيين من شر الاحتراب والتفكك والدمار الذي عرفوه خلال السبعينات والثمانينات. لديه تجربة غنية في العمل الميثاقي عام 1943، ولديه تجربة ثانية مهمة في العمل الميثاقي تتجلى في تجربة الطائف عام 1989. هناك علاوة على هذه وتلك تجارب ومحطات ثانوية وانما مهمة ايضاً. والجدير بالانتباه هنا ان هذه المواثيق وصفت بالوطنية وهو وصف ينطوي على بعض الدقة اذ إن الهم الرئيس الذي كان في اذهان مهندسي ميثاق 1943 ووثيقة الطائف كان ايجاد حلول للمعضلات الوطنية، بخاصة مسألة الهوية، التي كانت تثير، في نظر رعاة الميثاقين، الانقسام الشديد بين اللبنانيين. غير ان فكرة الميثاق الوطني اللبناني انطوت على بعد ديموقراطي مؤكد. فالميثاق انطلق من التشديد على اهمية الانتقال من نظام لبنان «الطائفي» المهدد للحريات وللديموقراطية وللكيان السياسي الى نظام يقوم على المواطنة التي تسمح للفرد بالمشاركة الحقيقية (كما تمناها روسو) في الحياة العامة. من المفارقات التي رافقت ولادة فكرة الميثاق على ارض لبنان، انه فيما سعى الميثاق الى توحيد كلمة اللبنانيين، اضاف انقساماً جديداً الى صفوفهم، اذ تجد اليوم في لبنان انقساماً بين من يؤيد الميثاق ومن يعارضه. هناك من يعارض الميثاق جملة وتفصيلاً، ولكن هناك من يأخذ على الميثاق والميثاقيين الفشل في تطبيق المبادئ التي وعدوا بها. فعلى رغم هيمنة الميثاقيين، الشكلية على الاقل، على الحياة السياسية، بقي لبنان بعيداً من الانتقال الى ديموقراطية المواطنة. وعد ميثاق 1943 بالانتقال الى «ساعة يقظة وطنية شاملة مباركة» يتم خلالها القضاء على الطائفية ولكن هذه الساعة لم تأت. ووعدت وثيقة الطائف بتشكيل هيئة وطنية لاقتراح طرق لإلغاء الطائفية السياسية ولكن هذه الهيئة لم تشكل حتى بعد مضي اكثر من عقدين من الزمن على الوثيقة. ان التخلف عن تطبيق هذه الوعود التاريخية مؤشر مهم على اهمال المكون الديموقراطي للميثاق والوثيقة. هذا الاهمال تجلى على اكثر من صعيد. فالنخبة السياسية اللبنانية التي دافعت عن الخيار الديموقراطي اللبناني، والتي حمت لبنان من مساوئ الحزب الواحد والمشروعيات الثورية، لم تلتزم التزاماً كافياً بالمبادئ الديموقراطية. فالثورة «الدستورية» عام 1952 لم يسببها التدخل الخارجي فقط، وانما ايضاً عوامل داخلية تمثلت بالتجديد للرئيس. والمعارضة المسلحة التي اعلنها بعض الزعماء اللبنانيين لم تكن بسبب مشروع ايزنهاور فحسب، وانما ايضا بسبب تدخل السلطة في انتخابات عام 1957 وما تردد عن رغبة الرئيس كميل شمعون في التجديد. وهكذا اذا فتش المرء عن اسباب الاضطرابات والمآسي التي حلت بلبنان، فسيجد ان العجز الديموقراطي الذي شاب العهود الماضية كان مساوياً من حيث اهميته للمعضلات الوطنية. كذلك سيجد المرء ان لبنان ليس في حاجة الى تجديد تمسكه بالميثاق الوطني فحسب، وإنما هو في حاجة الى ميثاق ديموقراطي يتفق عليه اللبنانيون ويعملون على ترسيخه في النفوس، ويكرسونه بحيث يكون هو الدليل والمرشد الى تحديد الخيارات الوطنية. نحتاج الى هذا الميثاق لأننا لا نزال نراوح مكاننا - بالمعيار الديموقراطي - منذ ان دخلت الحياة البرلمانية الاراضي اللبنانية عام 1909. فنحن اليوم لسنا افضل بكثير من السنوات الاخيرة للامبراطورية العثمانية، مما يدل عند الكثيرين على مدى جسامة العجز الديموقراطي الذي نشكو منه. وبعد مضي ما يفوق قرناً من الزمن على اول انتخابات عامة اشترك فيها اللبنانيون، فإنه كان من المأمول ان تصبح الديموقراطية «اللعبة السياسية الوحيدة في لبنان»، ولكننا لا نزال بعيدين من هذا الحال، مما يحوجنا الى ميثاق ديموقراطي. نحن نحتاج الى ميثاق ديموقراطي يحرر المواطنين «الذين ولدوا احراراً ولكن لكي يعيشوا مقيدين بالسلاسل» كما وصفهم روسو، فيشدد على المكون المساواتي للديموقراطية وليس على الحرية فحسب، ويضع الاسس السليمة لنظام الانتخابات، ويدلنا على الطريق لترسيم علاقة افضل بين السلطات، وصلاحيات الرئاسات، ويشجع الاحزاب الوطنية على حساب الاحزاب المهددة لوحدة الدولة الترابية، ويعيد للدولة دورها كمحتكر لأدوات العنف، ويبين العلاقة بين الديموقراطية والشعب المسلح والمدرب على حمل السلاح من اجل حماية الديموقراطية اللبنانية من المغيرين ومن التوسعيين، ويحض لبنان واللبنانيين على الاضطلاع بدور خلاق وفاعل في دعم مساعي التحول الديموقراطي السلمي في المنطقة العربية فنساهم في ولادة ربيع عربي حقيقي يعود على سكان المنطقة وعلينا بالفوائد والامان والاستقرار. * كاتب لبناني