ربما يتيح ديوان الشاعر المصري شريف رزق «حيوات مفقودة»، (منشورات «مكتبة الأسرة»)، لقارئه أن يحيا بدوره حيوات أخرى، ليست مستمدة من النص فحسب، ولكن من حضوره داخله، بصفته – وباختصار – شريكاً فاعلاً فى إنتاج الدلالة الكلية للنص الأدبي. يُصدِّر الشاعر والناقد شريف رزق نصه بمقطع دال من مؤلف تراثي شهير، «جامع كرامات الأولياء» للنبهاني، وكأنه يحيلنا إلى عالم غير مرئي، أو محسوس، وبما يفتح طاقات التخييل أمام المتلقي، ويشي – بالأساس - بأن ثمة حيوات أخرى كامنة خلف الواقع المتعين، عمادها حالة التخطي، والمجاوزة له، ويتواشج مع هذا أيضاً إشارته إلى مؤلف «المنن الكبرى» للشعراني، بخاصة في ما يتعلق بالميثولوجي الديني، وتناصه معه، وتحديداً شخصية الشيخ شعبان المجذوب. (ص 17). يتوزع الديوان على ثلاثة أقسام تحمل العنوان ذاته «حيوات مفقودة»، ويأخذ كل قسم منها علامة تعريفية تشير إلى ترتيبه وفقاً للرمز اللاتيني، وبذا يصبح الجمع بين التراث العربي في التصدير، والآخر الغربي في التقسيم، بمثابة المجاوزة للمعنى المألوف للتراث، وإضافة له. لسنا هنا أمام أجزاء منفصلة، بل نحن أمام تنويعات لحيوات متعددة، يتنوع «الفقد» فيها ما بين الميثولوجي الديني (كرامات الأولياء) في القسم الأول، وانشطار الذات في القسم الثاني، ومساءلة الآخر في القسم الثالث. يستعير الشاعر كثيراً من آليات السرد في نصه، مضفراً إياها في بنيته، غير أن حضور السرد هنا يبدو مرتهناً بالشعرية بالأساس، وبدرجة تحققها؛ ولذا فهو يخلق لنا حكياً شعرياً رهيفاً، ومتماسكاً في آن، بدءاً من الاستهلال النصي، وحتى المختتم: «ولم يكد شريف يخرج من أمه حتى مشى، وتوقف، وصاح: هذا أنا/ وهذه ولادتي الأخيرة/ فاستغفري أيتها الطواغيت/ واصدعي يا جبال/ هذا أنا/ سأضع حداً للنازعات/ وللفناء». (ص 11). ثمة روح تحاول أن ترمم تاريخها المنسي، ذكرياتها التي تحاول أن تعرفها، حتى أنها تعتقد نفسها ديناصوراً كانته منذ خمسة وستين مليون عام، أو شجرة، أو صوتاً، أو نقطة ماء، ويتجلى هذا كله عبر توظيف دال لفضاء الصفحة الورقية، ولعب فني على مستويات التشكيل البصري، والأصوات المتجاورة زمنياً، والمنبئة عن تداخل واعٍ بين مساحات الغياب، والحضور. لذا، فمن الممكن أن تجد في الصفحة الواحدة ثلاث بنيات شعرية كل منها قائمة، ومستقلة بذاتها، حيث نرى مثلاً بنية تتمحور حول الذات الشاعرة (أنا حالياً شريف أيها البحر)، والتي يوازيها «على ربوة مهجورة/ سأبتني لي قبراً/ قبراً على قد قرفصائي، وأثقب في صدري كوة/ لأطل منها/ وتتسرب روحي إلى المداخل» (ص 16)، أما البنية الثانية فهي بنية حكمية الطابع، ومن دلائلها «لكل صبوة واشتهاء/ طلقة في منازل الأحشاء»، ويوازيها في الصفحة المقابلة «أنت عاصفة تجمرني هنا/ وأنا انفجارك تحت جسمي في المدى» (ص 17). أما البنية الثالثة فهي ذات نزعة ملحمية، مثلما نرى في المقطع التالي «وأعجب الأحوال حالي؛ فرغم أنني لم أذق طعاماً منذ لم أعد أدري، تحط على رأسي الطيور، وتأكل ما تشتهي، وأنا كحربة مزروعة في كبد الأرض العراء أرتل...». (ص 17). إن «حيوات مفقودة» نص منفتح على إمكانات تأويلية عدة، تحضر فيه إحالات، وترميزات مختلفة إلى التراث الإنساني بشقيه، الشرقي والغربي، من جهة، كما أن به تراكماً معرفياً، وجمالياً من جهة ثانية: «الرحمة يا رامبو/ يا سان جون بيرس/ يا هنري ميشو/ يا فرناندو بيسّوا/ يا كافكا/ يا غوته/ يا أحشائي». (ص 21). يأخذ القسم الثاني إما تواريخ ميلادية، أو اسماً لأحد أيام الأسبوع (الأربعاء، الخميس، الجمعة...)، غير أن ثمة نصاً مركزياً في هذا القسم، ألا وهو «الأربعاء»، بحيث يحوي إشارة نصية إلى تلك الحيوات المفقودة، التي عاشتها الذات الشاعرة، أو تمنتها من قبل، فتبدو فيه جدلية الحياة والموت، الوجود والعدم: «لا شك أن كثيرين من قبلي، عاشوا في هذا الجسد، وأنني بالتأكيد، عشتُ قبل هذا الجسد في كائنات أخرى، من قبل، صحيح أنني لا أستطيع أن أتذكر من حيواتي المفقودة، على وجه الدقة أشياء، ولكنني على يقين بأن عديدين مني ذهبوا على التوالي، وبقيتُ وحدي، وأنهم يتوافدون عليّ ولا أراهم، ومع هذا فلم أزل قادراً على الحياة». (ص 39). وفي كلٍّ تحيا الذات أزمة محتدمة فتتوهم قريناً متخيلاً تارة، وظلاً واهياً تارة أخرى، وصولاً إلى انشطار الوعي، ويصير السؤال أداة ناجعة لتلمس العالم: «أنا حتى الآن لا أستطيع أن أجزم تماماً إذا ما كنت في الأصل، حياً، وينتابني موت مؤكد، أم أنني في الأصل، ميت، وأصحو على فتراتٍ، قليلا». ثمة حضور للعام، والتماس مع السياق السياسي/ الثقافي في القسم الثالث من الديوان، ويبدو الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) بمثابة الزمن المرجع في هذا القسم، ويتجه الشاعر هنا إلى مساءلة الآخر، وإقامة تفاعل ندي ثقافي معه: «كنا على هذين المقعدين معاً/ أنا وشريف/ محاصرين بإرهاب محاربة الإرهاب/ شاردين كجمرتين/ ولا أعلم الآن أيُنا غادر الآخر بغتة/ ولم يعد». (ص 55). يبدو شريف رزق مسكوناً بقصيدة النثر إبداعاً، وتنظيراً، وهو هنا يخلق مساره الشعري الخاص، لا بصفته أحد أهم شعراء جيل الثمانينات في القصيدة المصرية، ولكن باعتباره حاملاً رؤية نافذة للعالم، ووعياً حاداً به، يعد نتاجاً لخبرة معرفية، وجمالية مختلفة، ومغايرة في آن.