البحثُ عن الذات في بحر الضياع الذي يشعرُ به المرء في العالم المعاصر، يشكّل حجر الأساس الذي يبني عليه الفرنسيّ باسكال كينيار (1948) روايته «فيلا أماليا»، (ترجمة محمد المزديوي، المجلس الوطنيّ للثقافة والفنون والآداب، الكويت 2012). انه البحث الذي يدفع المرء إلى التنقيب عن السعادة المفقودة في مناطق نائية، بعيداً من ضِرام الواقع المُستعر المُفجع، اذ تكون الأدوات المساعدة متقاطعة لبناء عالم بديل على ركام الواقع المحطّم المهروب منه. الشخصيّة الرئيسة هي آن هيدن، مؤلّفة وعازفة موسيقيّة، في منتصف العمر، تعيش مع زوجها في باريس، تقرّر التمرّد على رتابة حياتها وبلادتها، لتكسر النمطيّة التي تجد نفسها مقيّدة بها، ولا سيّما بعد صدمتها بزوجها وبعض سلوكيّاته وتصرّفاته. تتخلّى آن هيدن عن كلّ شيء، تبيع ممتلكاتها، لتبحث عن ذاتها ووجودها ومعنى لذاك الوجود المهمّش في زحمة باريس. رُهابُ الماضي يلاحق آن هيدن، وهي المسكونة بجراح خلّفها أبٌ هجرها وأمَّها بعد أن دسّ في روحها عشق الموسيقى الذي تشرّبته على يديه، إذ كان يدرّبها لساعات طويلة في طفولتها. غدت الموسيقى عالمها الأجمل، ومصدر سعادتها وبهجتها. يدفعها شعور الاغتراب للبحث عن انتماء لمكانٍ ما لا تدري أين قد تعثر عليه. وبينما هي تخطّط خطوات الخروج من فخّ واقعها لتنطلق في رحلتها، تصادف صديق طفولتها جورج الذي لا يزال يحافظ على عشقه لها. في الوقت الذي تحاول آن الهروب من ماضيها تصدَم بعودتها إليه في لبوسٍ آخر وبطريقة لم تكن تخطر لها على بال، ففي حين تدبّر للابتعاد عن زوجها توماس في أوّل خطوة لمحو الماضي، تجد نفسها عائدة إلى ماضٍ أبعد ورجل آخر ترتاح إليه وترافقه في شكل متقطّع، ومن دون أن تؤجّل قرار رحيلها النهائيّ. تستمتع برفقة جورج فترة، يغدو ملاذها الآمن، يتواطأ معها على تنفيذ مخطّطها في الابتعاد عن كلّ شيء والابتعاد نحو رحاب أكثر انفتاحاً وسعة وتجدّداً. يتشاركان في حسابٍ مصرفيّ، ينفّذ لها ما تطلبه مدفوعاً بحبّه الكبير لها، مع تصريحه بخشيته الكبيرة عليها من قرارها الفجائيّ الغريب. تحرق هيدن ماضيها، تتخلّص من كلّ شيء يمتّ إلى ذاك الماضي بصلة، تغامر، تهرب، تقرّ بصعوبة الافتراق عمّن تحبّ والأكثر إشكالاً بالنسبة اليها الافتراق عن الذات وعن صورها في سبيل البحث عن تجلٍّ جديد لها يعكس تصوّرها ورغبتها وحلمها. تسوح في عدد من المدن، تمحو أيّ أثرٍ قد يدلّ عليها، راغبة في القطيعة الانتقائيّة مع ماضيها، تقدّم نفسها لعالمها الجديد بطريقة مختلفة، تغيّر من شكلها وهيئتها، تلقي بكلّ شيء خلفها، حتّى ألبستها القديمة ترميها، لتقتحم عالمها المنشود بهويّة جديدة. تخالجها مشاعر متناقضة، تعيش الاغتراب والضياع والبهجة معاً. يغريها مكان ناءٍ في أعماق جزيرة إيطاليّة بعيدة، تكتشف هناك بيتاً منعزلاً يوافق رغبتها في الانعزال والابتعاد عن المدينة وصخبها وضجرها وصرامتها، لتعيش حرّة من دون قيود أو حدود. البيت الذي تختاره هو فيلا أماليا، وهو عائد لسيّدة مسنّة اسمها أماليا، تسرد لها أماليا قصّة تسمية الفيلا باسم خالتها المتوفّاة أماليا تخليداً لذكراها واعترافاً بقدرها، وتروي لها خصوصيّة البناء والطريقة التي بنيت بها، تحكي لها ذلك بعد صدّها لها مرّات، وتوجّسها الجليّ لاقتراب غريبةٍ منها، واقتحامها لعزلتها في تلك الجزيرة التي تشعر فيها هيدن أنّها ستحظى أخيراً بمكان يُشعرها بالأمان والانتماء. يغدو البيت ضالّتها وحلمها، هي التي تخلّت عن بيتها وماضيها، تبدأ بترميمه بعد تذليل صعوبات العقد مع أماليا وأخيها، وأثناء انهمامها بالتجهيزات كانت تعيش سعادة غامرة لم تذق لها مثيلاً. تتردّد على الفيلا، تقدّم نصائحها وتوصياتها للعمّال، يحتلّ البيت كلّ اهتمامها ووقتها، تنتمي بكلّيّتها إليه شاعرة بالدفء والرعاية والأمان بين جنباته. وأثناء وجودها هناك، تتعرّض لسقطة تكاد تودي بها، يسعفها أحد العمّال، وفي المشفى يهتمّ بها طبيب ألمانيّ يدعى ليونهارت، يصبح صديقها بعد معالجته لها، ترتاح إليه ومعه، تستمع إليه بحنان، تشفق عليه، تتعاطف معه جرّاء ترك زوجته المغنّية له، وهو بدوره يجد فيها عزاءه، وبعد فترة من التعارف والصداقة بينهما، يأتي دوره في رعاية ابنته الصغيرة، ذلك أنّ قرار القاضي أثناء التفريق بينه وزوجته، نصّ على رعاية كلّ منهما للطفلة ثلاثة أشهر. يشكّل مجيء الطفلة الصغيرة ماجدلينا حدثاً لهيدن التي تسعد برفقتها، تعاملها كأنّها ابنتها، تتعوّدان على بعضهما بعضاً في شكل غريب، ويكون المنعطَف الأبرز الذي يغيّر وتيرة الأحداث ويحرف مسارَها موتُ الطفلة فجأة إثر اختناقها بقطعة طعام. يشعل موتها شرارة الموت والرحيل في الرواية، كأنّه إيذان بتفتّت محتّم. تقوم بدور المعالجة للطبيب الحطّم، يكون الحطام رابطهما اللامرئيّ. ترحل بعدها والدة هيدن، ثمّ جورج ووالدها، وأماليا وغيرهم... تفقد هيدن أحبّاءها بين رحيل وغياب لتجد نفسها وحيدة منعزلة مستوحشة، عزاؤها موسيقاها ومؤلّفاتها. تتخلّى عن الفيلا، تعود إلى باريس، تكمل سني عمرها في أسى وألم وغربة. يجتاح التغيير حياتها، يدمّر كلّ شيء، يبقيها مسكونة بالذكريات والأوجاع والمرارات. تعيد شريط حياتها، وكيف كانت محوطة برجال كثر، وكيف أنّ الرحيل القاسم يبقى المشترك بينهم، بعضهم يرحل عنها، وبعضهم هي مَن ترحل عنه. تصف نفسها بأنّها تهتمّ بجني الرحيق مع تقدّمها في السنّ، تشبّه نفسها بعالم النحل الذي تغيّر فيه الشغّالات وظيفتهنّ مع تقدّمهنّ في السنّ، يكنّ منظّفات، ثمّ مرضعات، ثمّ صانعات للصمغ، وفي الأخير يجنين الرحيق إلى أن يمتن. هي التي صنعت منها المعاناة والحبّ والموسيقى والجوع والرحيل امرأة حادّة غريبة. كانت امرأة معقّدة، يحتفظ لها كلّ واحد ممّن حولها بصورة خاصّة به، بالنسبة الى ماجدلينا كانت سيّدة العواصف ساحرة عميقة، وفي عيني ليونهارت كانت فنّانة ناضجة في شكل رائع، قويّة متوحّشة ومميّزة. وفي عيني جوليا كانت جسداً كبيراً صامتاً مثيراً مطمئناً كلّه عظم وهروب وعزلة، وفي عيني جورج كانت طفلة صغيرة أبيّة، عدوانيّة شيئاً ما، دائمة الحذر، تتأثّر لأقلّ شيء، هشّة، قلقة، غامضة. وفي عيني عاشقها موسيقيّة رائعة... هكذا تتعدّد الصور حولها. يظهر باسكال كينيار في روايته التي قسّمها أربعة أجزاء غير متساوية، محدوديّة قدرة الفرد أمام تدبير الواقع وقسوة الحياة، يوحي أنّ أيّة محاولة فرديّة لتغيير العالم قد تُجابَه بكثير من الحواجز والمعوقات، تنشأ من داخل المرء نفسه، ومروراً بكلّ ما ومَن يصادفه أو يلاحقه. يسرد روايته في مشهديات ولقطات ومواقف غير مقيّدة، يتنقّل بين الأزمنة والأمكنة، ينوّع الساردين مع احتفاظه بنبرة التمرّد وسويّة السرد، يكثر من الحوار بين الشخصيّات، ولا يكترث كثيراً للتسلسل الزمنيّ أو التعاقب المكانيّ، ينقل قارئه بين مشهد وآخر، كأنّه مصوّر يحمل عدسته يتنقّل بها بين مواقع التصوير المتناثرة، يهتمّ بالتقاط التفاصيل النفسيّة بالموازاة مع تفاصيل الأمكنة. ويصوّر من خلال عمله نماذج مختلفة من الحياة المعاصرة بما تعجّ به من مفارقات، متغلغلاً في جذور الإشكالات التي تولّد مشاعر الاغتراب وفقدان الانتماء والأمان، رابطاً الأمان والاستقرار والدفء بالبيت الذي يظلّ مركزَ استقرار الحياة النفسيّة والاجتماعيّة، وكيف يمكن أن يكون في الوقت نفسه سبباً في توتير الشخصيّات وتضييعها وتأزميها وفقدها، يفكّك تأثير البيت وقدرته على بثّ القلق والرعب تماماً كما يمكنه أن يُشعر بالراحة والأمان.