لم يقارب إعلان النيات الذي صدر في اختتام جلسة الحوار الوطني اللبناني الذي استؤنف بدعوة من رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان، نقاط الاختلاف وتحديداً تلك المتعلقة بسلاح «حزب الله»، ولا الموقف من المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، بمقدار ما شكل محاولة لتنفيس الاحتقان السياسي والمذهبي لعلها تهيئ المناخ لملامسة هاتين النقطتين في الجلسة المقبلة المقررة في 25 من الشهر الجاري. وعلمت «الحياة» من مصادر متعددة شاركت في الجلسة بأن الاختلاف حول سلاح «حزب الله» والمحكمة الدولية كان وراء ترحيل هاتين النقطتين إلى الجلسة المقبلة لعل المشاورات الثنائية التي يتولاها رئيس الجمهورية في ظل انقطاع التواصل بين التحالف الشيعي المؤلف من حركة «أمل» و «حزب الله» من جهة وبين قوى 14 آذار من جهة ثانية، تتيح تحقيق الحد الأدنى من تنظيم الاختلاف بعيداً من تبادل الاتهامات وتسجيل المواقف بما يضمن الحفاظ على الاستقرار العام وترسيخ التهدئة وعدم تعريضها إلى انتكاسة جديدة. وأكدت المصادر عينها أن إعلان بعبدا، وإن ركز على تحييد لبنان عن الصراعات الدائرة في المنطقة والحؤول دون استيراد تداعيات الأزمة السورية ومفاعيلها إلى الداخل، فإنه في المقابل حاول أن يدرج لبنان على لائحة الانتظار إلى حين جلاء حقيقة المتغيرات التي تشهدها المنطقة التي لا يمكن لبنان أن ينأى بنفسه عنها ما لم يُصَر منذ الآن إلى التوافق على ما يحصن ساحته ويحميها من الانعكاسات المترتبة على الأزمة السورية. تمرير هدنة ولفتت إلى أن إعلان بعبدا ينم عن رغبة رئاسية في خلق المناخ الداعم لتمرير هدنة بأقل مقدار من الخسائر الأمنية والسياسية من شأنها أن تنعش الاقتصاد الذي يرزح الآن، وكما قال رئيس الجمهورية في مستهل جلسة الحوار، تحت وطأة الانكماش المخيف نتيجة تراجع موسم الاصطياف على رغم المحاولات الهادفة إلى انعاشه. وقالت المصادر إن إصرار سليمان على استئناف الحوار يلقى تأييداً من المجتمعين الدولي والعربي اللذين يتطلعان إلى توفير الحماية للبلد ويحذران من إغراقه في دورة جديدة من التأزم تحت ضغط الأحداث الجارية في سورية. ورأت أن من غير الجائز تعريض لبنان إلى أزمة مفتوحة فيما ينصرف المجتمع الدولي إلى مواكبة ما يجري في سورية من موقعه المراهن على حصول متغيرات فيها مهما طال أمد الانتظار، مؤكدة أن أقصى طموح هذا المجتمع يبقى محصوراً، حتى إشعار آخر، في تمديد عمر الأزمة في لبنان وإنما على قاعدة التفاهم على تنظيم الاختلاف وخفض منسوب التوتر السياسي و «تنعيم» الخطاب من دون الطلب من هذا الفريق أو ذاك التراجع عن مواقفه. وبكلام آخر، فإن المجتمع الدولي ما زال يراهن على إمكان التفاهم بين الأطراف المشاركين في الحوار على هدنة مديدة تتولى هيئة الحوار رعايتها، وتكون بمثابة لجنة أمنية عليا تتدخل لدى حصول أي تدهور وتعمل على استيعابه ومنعه من أن يتمدد باتجاه مناطق أخرى. ومع أن المجتمع الدولي أبدى ارتياحه، وفق المصادر، إلى المضامين الواردة في إعلان بعبدا، فإن الإعلان بحد ذاته يعيد التواصل، ولو بالواسطة، وبإشراف مباشر من رئيس الجمهورية. وفي هذا السياق يراهن رئيس «جبهة النضال الوطني» وليد جنبلاط على قدرة طاولة الحوار على الوصول إلى صيغة لتنظيم الاختلاف تشكل المدخل الطبيعي لحماية البلد من مفاعيل الأزمة السورية. وعلى رغم أن جنبلاط لا يقلل من حجم المشكلة السياسية في البلد فإن مصادره تنقل عنه مخاوفه من الآتي نتيجة ما يحصل في سورية ما لم يبادر اللبنانيون إلى تحصين ساحتهم لتخفيف فاتورة الأضرار من جهة بدلاً من ترك البلد تحت رحمة التصعيد في انتظار ما ستحمله الأزمة في سورية من متغيرات. ويعتبر جنبلاط أن لا بديل من الحوار من أجل وأد الفتنة المذهبية وأن أي تصعيد في لبنان سيقود حتماً إلى فتنة سنّية - شيعية شئنا أم أبينا، هذا هو الواقع ومن غير الجائز أن نتجاهله. لحوار مواز مع «المستقبل» ويضيف وفق مصادر - أن سلاح «حزب الله» لا ينتزع بالقوة وإنما بالحوار من خلال إعادة البحث في الاستراتيجية الدفاعية للبنان شرط أن لا يستخدم هذا السلاح في الداخل أو أن يصار إلى الاستقواء به على طرف معين، وأن يقتصر دوره على مواجهة الأخطار الإسرائيلية. ويسأل جنبلاط غامزاً من قناة تيار «المستقبل»: «أنا لا أفهم لماذا لا يحصل حوار بين «حزب الله» وحركة «أمل» من جهة وبين «المستقبل» من جهة ثانية، يكون موازياً للحوار الذي يرعاه رئيس الجمهورية؟». ويضيف: «إذا كان الحوار متعذراً بين «حزب الله» و «المستقبل» فلماذا لا يبدأ بين الأخير ورئيس المجلس النيابي نبيه بري إلى حين قيام اتصالات يمكن أن تفتح الباب أمام انطلاق حوار ولو بالواسطة بين «المستقبل» و «حزب الله»؟ ولا يؤيد جنبلاط أي طرف يدير ظهره للآخر ويرفض الحوار معه محذراً من وجود مشاريع يراد منها إحداث تغييرات ديموغرافية على وقع الأزمة في سورية التي أخذت تتصاعد. ويقول: «كنت نصحت النظام في سورية في حزيران (يونيو) الماضي بضرورة فتح حوار مع المعارضة يؤدي إلى تحقيق إصلاحات». ويتابع أن «كثيرين في لبنان راهنوا قبل أكثر من عام على قدرة النظام في سورية على احتواء الأزمة وبالتالي السيطرة على الوضع واستعادة زمام المبادرة، وأخذ هؤلاء يمددون المهلة تلو الأخرى لخروجه أكثر قوة من أزمته لكنهم أخطأوا في حساباتهم ووقعوا ضحية معلومات مغلوطة لا تستند إلى الواقع الراهن في سورية». وأعرب جنبلاط عن خشيته من تفتيت سورية من خلال قيام دويلات طائفية وهذا ما تستفيد منه إسرائيل، مؤكداً أن بعض الأطراف المتحالفين مع النظام في سورية أخطأوا في قراءتهم المتغيرات فيها وواقع حال الأزمة وهم باتوا الآن يتخوفون من تبدل في المعادلة السياسية بعدما كانوا يراهنون على أن النظام السوري سيتمكن من اجتياز أزمته ويعود أقوى مما كان، وبالتالي سيضعون لبنان أمام معادلة جديدة من شأنها أن تدفع في اتجاه إضعاف من يعارض النظام السوري. وتنقل المصادر عن جنبلاط عدم تأييده وجهة النظر القائلة بوجوب ترك الأمور في لبنان على حالها من التأزم والتشنج الطائفي والمذهبي، إلى حين تغيير النظام في سورية وبالتالي الاستقواء بالنظام الجديد على حلفاء بشار الأسد في لبنان... ويؤكد أنه يقف إلى جانب التغيير في سورية وأنه كان أول من دعم المعارضة بعد أن أمعن النظام في ارتكاب المجازر من دون أن يصغي للنصائح أو يلتفت إليها، لكنه لا يؤيد من يحاول في لبنان الاستقواء بالنظام الجديد على خصومه في الداخل. كما لا يؤيد حشر «حزب الله» في الزاوية لأنه سيضطر إلى الدفاع عن نفسه مهما كانت النتائج، وهو يقترح توفير التطمينات لهذا الحزب بدءاً من التوجه من محازبيه بخطاب جديد يخلو من الثأر والانتقام وانتهاء بالعمل من أجل استيعاب المخاوف وصولاً إلى تبديدها. ويسأل جنبلاط: «هل يريد حزب الله ثمناً في مقابل تخليه عن سلاحه؟»، ويزيد: «لا أعرف، مع أن البعض أخذ يستحضر مجدداً إمكان تغيير النظام على قاعدة تطبيق مبدأ المثالثة بين المسيحيين والسنّة والشيعة؟». ويعتقد رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي أن المسيحيين في لبنان لن يكونوا في منأى عما سيترتب على اندلاع الفتنة بين السنّة والشيعة، وهو يتخوف على وجودهم، ولهذا السبب لا يرى أي بديل من الحوار محذراً بعض القيادات المسيحية من نفخها في الترويج لها، لأنه لن يكون هناك من رابح في لبنان، والمسيحيون سيكونون أول الخاسرين. وينوه جنبلاط بمواقف الرؤساء الثلاثة ويدعو «المستقبل» إلى الكف عن استحضار حوادث أيار (مايو) 2008 في كل مناسبة لأنه يزيد من شحن الأجواء، مكرراً قوله إنه ليس نادماً على المجيء برئيس الحكومة نجيب ميقاتي من خلال الانقلاب الذي حصل اعتقاداً منه بأن البديل لن يكون إلا فتنة سنّية - شيعية. ويضيف أنه ضد استقالة حكومة ميقاتي وأنه سيعيد تسميته رئيساً للحكومة في حال رحيل الحكومة الحالية. «فإما أن نغرق معاً أو ننجو بالبلد معاً بالتعاون مع رئيسي الجمهورية والمجلس النيابي». في ضوء كل ذلك تؤكد مصادر محايدة كانت واكبت التحضير لاستئناف الحوار أن «حزب الله»، أخذ يرفع من وتيرة خطابه السياسي مع أن المطلوب منه التهدئة لإنجاح الحوار. وتعزو السبب إلى أن الهم الأساسي له يكمن في التوجه إلى جمهوره بخطاب تعبوي بغية طمأنته إلى أنه لن يدفع ثمن تبدل المعادلة الداخلية في لبنان في حال تغير النظام في سورية. وتعتبر هذه المصادر أن الجميع في لبنان يعيش حالياً حال ترقب وقلق بسبب تصاعد الأزمة في سورية. لكن «حزب الله» اضطر أخيراً إلى أن يصعد في خطابه السياسي لاستيعاب قاعدته الحزبية ومناصريه في معرض إجابته عن التساؤلات التي أخذوا يطرحونها، وتحديداً في خصوص «مستقبل» الحزب وقدرته على توفير شبكة الأمان له لئلا يتأثر بتغيير النظام في سورية. وترى المصادر عينها أن الحزب اتخذ قراره باتباع خطاب الحد الأقصى، ليس لأنه لا يريد فتح حوار مع خصومه، وإنما للحفاظ على قوته وعدم التفريط بها بالشكل الذي يسهل عليهم استدراجه إلى تسوية لا تأخذ في الاعتبار حجمه السياسي وحضوره الفاعل في الساحة الشيعية. لهذا، فإن إعلان بعبدا قرر أن ينأى بنفسه عن الاختلاف حول سلاح «حزب الله»، لعل رئيس الجمهورية ينجح لاحقاً في إدراجه كبند حواري غير قابل للانفجار.