في 23 كانون الاول (ديسمبر) 2011، اعلن المجلس الوطني الانتقالي الليبي في احتفال كبير «تحرير ليبيا»، كانت جثة العقيد معمر القذافي لا تزال معروضة في حاوية مبرّدة للخضار في مدينة مصراتة، ولم يتوقف كثر عند ملابسات مقتله على رغم انها كانت تنبئ بالكثير عن المستقبل الدموي الذي ينتظر البلاد. كان الجميع منشغلاً بأسئلة المستقبل، إذ طويت مرحلة الجماهيرية إلى غير رجعة، وبالفعل كان ثمة الكثير مما يدعو الى التفاؤل، بلاد شاسعة تمتلك احتياطات نفطية هائلة، وإطلالة تمتد الى نحو 2000 كيلومتر على المتوسط، وتعداد سكان لا يتجاوز السبعة ملايين نسمة، وآلاف حَمَلة الشهادات العليا من جامعات غربية من المبتعَثين ومن أبناء المعارضين الذين عادوا للتو الى البلاد، وربما الأهم من كل ذلك مجتمع غير مؤدلج غالبيته العظمى تدين بإسلام معتدل على المذهب المالكي، وهوية وطنية قطعت شوطاً كبيراً على طريق تجاوز الانتماءات ما قبل الدولتية. لكن، حتى قبل ان يعلن تحرير البلاد، كان واضحاً ان كل المشاكل التي تم تجنب إثارتها خلال اشهر الثورة، ستنفجر في وجه المجلس الوطني والمكتب التنفيذي دفعة واحدة، إذ كانت الثورة ساهمت وبشكل كبير في تعميق الانقسام المجتمعي على اختلاف أشكاله في طول البلاد وعرضها، ليس فقط على خلفية الموقف من نظام القذافي الذي دفعت ثمنه قطاعات كبيرة من المجتمع الليبي كما حدث مع سكان سرت وبني وليد والتاورغيين والمشاشية، وانما ايضاً عبر نكء جراح قبلية وجهوية كان يعتقد انه قد طواها النسيان. حال تواصل الممارسات الانتقامية من جانب بعض المليشيات دون التوافق على برنامج للمصالحة الوطنية يطوي صفحة الماضي عبر تسويات في إطار رؤية شاملة تقدمت بها غالبية الشخصيات الوطنية والمؤسسات الدولية ضمن برنامج للعدالة الانتقالية. واتضح سريعاً ان المجلس الوطني والمكتب التنفيذي لا يمتلكان القدرة على تنفيذ اي من الاستراتيجيات التي كثيراً ما اعلنا تبنيها على هذا الصعيد، وأن الكتائب المسلحة التي انتشرت بالمئات في طول البلاد وعرضها باتت لها مصالح خاصة ليس من السهل ان تتخلى عنها خصوصاً بعد ان رسخت وجودها وقوتها بشكل كبير. امتلكت هذه الميليشيات كل عناصر القوة بدءاً من السلاح بكل أشكاله، وصولاً الى السيطرة على منشآت حيوية من بينها المطارات والموانئ ومصافي النفط، وعلى رغم المحاولات الحثيثة من جانب المجلس الوطني والحكومة التي انبثقت منه لدمجها في المؤسسات الامنية والعسكرية، إلا ان عوامل كثيرة حالت دون ذلك، أهمها انعدام الثقة بين هذه الميليشيات وقيادة المجلس الوطني الانتقالي الذي لم تكن تنظر اليه باعتباره يملك الشرعية لتمثيل المرحلة الانتقالية، بالنظر الى اتهام غالبية قياداته بأنها تتحدر من الشرق تارة، ولهواها العلماني تارة ثانية، ولكون غالبيتها من رموز النظام السابق التي انشقت عنه تارة ثالثة. ويتهم تقرير لمجموعة الازمات الدولية أطرافاً خارجية بلعب دور كبير في رفض تسليم الميليشيات سلاحها، بل وبتقديم دعم مباشر الى بعضها، وينقل تقرير بعنوان «التحديات الامنية في حقبة ما بعد القذافي» عن مسؤول فرنسي ان باريس «صدمت من جهود الدوحة لتقديم تمويل منفصل لعبدالحكيم بلحاج»، ووصف المسؤول ذلك بأنه «لعبة خطيرة»، وأن قطر «تحاول تجاوز المجلس الوطني الانتقالي وتمويل ميليشيا إسلامية منفصلة». وكحل لهذه المعضلة، تم اللجوء الى محاولة ربط الكتائب بمؤسسات الدولة من دون حلّها عبر تشكيل اطر جديدة، فتم تشكيل قوات «درع ليبيا» التي تعمل مع الجيش، واللجنة الامنية العليا مع الشرطة، ومُنحتا تفويضاً كبيراً من المجلس الانتقالي، قبل ان تتضح كارثية هذا القرار لاحقاً. يذكر ان الديناميكيات التي كانت رسمت مسار الازمة في العاصمة طرابلس مختلفة إلى حد كبير عن تلك التي في الشرق بخاصة في بنغازي، وربما يعود ذلك إلى مسألتين اساسيتين، الاولى تتمثل في تحرر الشرق مبكراً على يد ابنائه من دون الحاجة الى تدخل من مناطق اخرى كما حصل في طرابلس، والثانية هي تحدر غالبية سكان بنغازي من قبائل متجانسة خلافاً للغرب الليبي الذي يتشكل من الكثير من القبائل التي لا تتمتع بعلاقات جيدة مع بعضها بعضاً. وربما كان اكبر الأخطار الامنية التي أطلت برأسها مبكراً في الشرق هو ازدياد نشاط التنظيمات المتشددة فور انتهاء «الثورة»، إذ أُعلن رسمياً في شباط (فبراير) 2012 عن ولادة تنظيم «انصار الشريعة»، وذلك بعد الانفصال عن «سرايا راف الله السحاتي»، وعقد مؤتمر علني في بنغازي تحت عنوان «الملتقى الاول لأنصار الشريعة» بحضور اكثر من ألف شخص في حزيران (يونيو) من العام ذاته، جاؤوا من إجدابيا ودرنة وسرت بعشرات العربات العسكرية التي ترفع علم القاعدة. ويرأس التنظيم محمد الزهاوي، وهو سجين سابق في سجن ابو سليم، وخلافاً لقيادات التنظيمات المشابهة، حرص الزهاوي على الظهور في مقابلات تلفزيونية لشرح رؤيته لكيفية إقامة الشريعة في ليبيا. في درنة، استطاع متشددون ان يسيطروا على المدينة سريعاً، وأن يفرضوا قوانينهم عليها عبر تنظيم «انصار الشريعة» بقيادة سفيان بن قمو السائق السابق لأسامة بن لادن، والذي كان أُفرج عنه من سجون القذافي في إطار عملية المصالحة التي قادها سيف الإسلام القذافي مع «الجماعة الليبية المقاتلة». وتشير تقارير إلى نشاط التنظيم ايضاً في كل من إجدابيا وسرت، من دون ان يتضح الرابط التنظيمي بين كل هذه الفروع التي تنفي قطعياً ارتباطها بتنظيم القاعدة. ولم تمض اشهر قليلة على تشكيل هذه الكتائب حتى استطاعت لفت أنظار العالم بأسره عقب اغتيال السفير الاميركي كريس ستيفنز وثلاثة اميركيين آخرين في مقر القنصلية في بنغازي في 11/9/2012، إذ اتهمت واشنطن تنظيم أنصار الشريعة بالمسؤولية، وتم إعلان فرعيه في بنغازي ودرنة كجماعتين إرهابيتين، وبعد نحو عامين تم اعتقال أحمد ابو ختالة احد المتهمين بالهجوم من جانب قوات اميركية. سياسياً، كانت حالة التصحر هي الوصف الأنسب لحقيقة وضع المجتمع الليبي بعد اربعة عقود من تطبيق ما كان يعرف بقانون «تجريم الحزبية» الذي أصدره القذافي عام 1972، ومع تحديد المجلس الوطني الانتقالي موعداً لانتخابات المؤتمر الوطني العام، سارعت التيارات الاسلامية للإعلان عن ولادة احزاب حتى قبل ان يصدر قانون بهذا الشأن، وأهم هذه الاحزاب: - حزب «العدالة والبناء» الجناح السياسي لتنظيم الاخوان المسلمين الذي اعلن عن تشكيله في 5 آذار 2012، وتم اختيار محمد صوان الذي يتحدر من مدينة مصراتة رئيساً له. - حزب «وطن» بقيادة أمير «الجماعة الليبية المقاتلة» ورئيس مجلس طرابلس العسكري عبدالحكيم بلحاج، ويدعو الى نظام ديموقراطي معتدل يكفل جميع حقوق المواطنين ويضمن التعددية وتطبيق الشريعة الاسلامية. - حزب «الامة الوسط» بقيادة المنظّر الشرعي ل «الجماعة الليبية المقاتلة» سامي الساعدي، ويوصف بأنه اكثر راديكالية من حزب بلحاج وضم غالبية اعضاء «الجماعة» سابقاً. وأثبتت انتخابات عام 2012 فشل التيارات الاسلامية في تأمين الغالبية في المؤتمر الوطني، إذ لم يحصل حزب «العدالة والبناء» إلا على 17 مقعداً من اصل 80 مخصصة للأحزاب السياسية، وفيما فشل حزب «وطن» في الحصول على اي مقعد، نجح حزب «الامة الوسط» في إيصال مرشح واحد هو عبدالوهاب قايد، شقيق القيادي في تنظيم القاعدة ابو يحيى الليبي. وفي المقابل استطاع «تحالف القوى الوطنية» الذي يقوده محمود جبريل حصد 39 مقعداً. دقت النتائج ناقوس الخطر بالنسبة الى التيارات الاسلامية التي بدأت العمل بأساليب مختلفة للإمساك بدفة الحكم، اذ استطاعت نسج تحالفات أثبتت جدواها مع المستقلين الذين يمتلكون 120 مقعداً في البرلمان، وشنّت حملة كبيرة ضد جبريل، واتهمه زعيم حزب العدالة والتنمية بأنه «حليف سابق» لمعمر القذافي تارة، وبأنه «علماني معاد للتيارات الاسلامية» تارة اخرى، قبل ان تتم الاطاحة به وبالآلاف غيره من الحياة السياسية الليبية عبر إقرار «قانون العزل السياسي» في 5 ايار 2013، وهو ما ساهم في توحيد الكثير من القوى ضد التيارات الإسلامية في ليبيا عموماً والإخوان المسلمين على وجه التحديد. وبالتوازي مع معركة فرض «قانون العزل»، عمل تنظيم الاخوان على توطيد علاقته ب «دروع ليبيا» التي يتحدر غالبية مقاتليها من مدينة مصراتة، وتنقسم رسمياً إلى ثلاث كتائب في شرق البلاد ووسطها وغربيها، وباتت بمثابة الجناح العسكري للتنظيم، على رغم حرص القائمين عليها على نفي أي علاقة رسمية بالتنظيم. وازدادت ردود فعل الاخوان في ليبيا حدة تجاه معارضيهم بعد الإطاحة بحكم الرئيس محمد مرسي، ويرى السياسي الليبي محمود شمام ان انهيار حكم الاخوان في مصر دفع نظراءهم في ليبيا إلى «التخلي عن الخطاب المعتدل والتحالف مع المتشددين»، ويسجل ملاحظة هامة في هذا السياق، إذ يشير إلى «ارتباك رؤية واشنطن للوضع في ليبيا»، لأنها كانت «تراهن على الإسلام المعتدل ممثلاً بالإخوان»، ويقول إن «الأميركيين لا يملكون رؤية واضحة للوضع، وأنهم يعتمدون على البريطانيين في التعاطي مع هذا الملف الشائك». وانعكست هذه الخلافات السياسية بمزيد من الفوضى الامنية في البلاد، وتمادي الميليشيات في انتهاكاتها، خصوصاً بعدما بدأت التظاهرات المطالبة بخروجها من المدن بالازدياد. ففي 9/6/2013 قتل 31 من المتظاهرين المدنيين بإطلاق نار من جانب ميليشيا «درع ليبيا1» في منطقة «الكويفية» شمال بنغازي، حيث كانوا يتظاهرون مطالبين بتسليم الميليشيا اسلحتها للجيش وإخلاء المقر والابتعاد عن المظاهر المسلحة في المدينة. وفي 15/11/2013 اتهمت ميليشيا «درع ليبيا الوسطى» بقتل نحو 45 متظاهراً في حي «غرغور» جنوب العاصمة، كانوا يتظاهرون ضد سيطرة الميليشيات على مقار في المدينة. وتقول الناشطة السياسية في طرابلس أحلام بن طابون إن «نفوذ تيار الإسلام السياسي بدأ مع تشكيل المؤتمر الوطني، وتكوين أذرع عسكرية تعمل لحساب بعض الكتل، وشراء الذمم لمساعدتهم في تمرير قراراتهم»، وأن سكان طرابلس عموماً «يرفضون هذه الأحزاب الدينية او قادتها، وأن المواجهات التي وقعت في العاصمة زادت من كره المواطنين لهذه الجماعات». وعلى رغم التوتر الكبير والنقمة المتزايدة على تيارات الإسلام السياسي التي خلفتها هذه الاحداث، إلا ان رئيس المؤتمر الوطني المحسوب على الإسلاميين نوري بوسهمين اتخذ قراراً بتشكيل «غرفة ثوار ليبيا» وأوكل إليها حماية مداخل العاصمة ومخارجها، ليتضح لاحقاً ان الغرفة تتشكل بالأساس من قوات الدروع وبعض الكتائب الإسلامية الصغيرة، واتهمت الغرفة بالمسؤولية عن اختطاف رئيس الحكومة علي زيدان لساعات في 10/10/2013. وتزامن كل ذلك مع فشل المؤتمر في تنفيذ أهم استحقاق أوكل إليه في قرار تشكيله، ويتمثل في وضع دستور للبلاد يشكل إطاراً للقوانين التي ستنظم عمل مؤسسات الدولة، ما دفع رئيس المؤتمر نوري بوسهمين الى تمرير قرار تمديد عمل المؤتمر من شباط إلى كانون الاول 2014. ودفعت كل هذه التطورات إلى تشكل تيار معادٍ للإسلاميين في طرابلس على المستوى العسكري، إذ بدأت كتائب الزنتان تنتظم في مواجهة تزايدِ نفوذ كتائب الدروع التي تشكلت في غالبيتها من مقاتلي مصراتة، علماً ان الطرفين يقتسمان النفوذ الأكبر في العاصمة. وبدأت كتيبتا الصواعق والقعقاع تظهران كقوتين رئيستين في المشهد، خصوصاً في جنوبطرابلس، حيث تسيطران على الكثير من المقار الامنية والمنشآت الحيوية، من بينها المطار الدولي. واتهمت هذه الكتائب بأنها تنسق مع رئيس التحالف الوطني الليبي محمود جبريل الذي اضطر الى مغادرة البلاد بعد صدور قانون العزل تحت التهديد بالقتل على ما اكد في اكثر من مناسبة. ويستند الاتهام في جزء منه إلى ان عثمان أمليقطة، احد قادة الصواعق والقعقاع، هو شقيق رئيس لجنة التسيير في تحالف القوى الوطنية عبدالمجيد أمليقطة. ودخل لاعب جديد إلى المشهد هو اللواء خليفة حفتر الذي كان على رأس عمله في الجيش بإعلانه حل البرلمان والحكومة، فتم إعلان إقالته على الفور، لتكشف تطورات الامور لاحقاً ان ثمة تحالفاً بينه وبين كتائب الزنتان التي امهلت بتاريخ 21/2/2014 المؤتمر الوطني العام خمس ساعات للاستقالة أو مواجهة تدخل عسكري، ما دفع النواب الذين كانوا مجتمعين يومها الى الهروب من القاعة على وجه السرعة. وعلى رغم حل الأزمة بعد تهديد الدروع بالرد بقوة على تهديد كتائب الزنتان، إلا ان البرلمان اضطر على وقع التظاهرات المنددة بسياساته للعدول عن تمديد ولايته، والتوافق على تنظيم انتخابات مبكرة لبرلمان جديد. وعلى خلفية هذه الأحداث، ازدادت الخلافات بين التيارات الإسلامية ورئيس الوزراء علي زيدان الذي اتهمها في اكثر من مناسبة بعرقلة عمل الحكومة، وتتويجاً لضغوط استمرت لأكثر من عام لدفعه الى الاستقالة، شكلت زيارة زيدان الى القاهرة ولقاؤه القيادة المصرية الجديد الشعرة التي قصمت ظهر البعير. وبعد محاولات دؤوبة استطاع المؤتمر الوطني الإطاحة به في 12/3/2014 وتكليف وزير الدفاع عبدالله الثاني بتسيير الاعمال، واتهم زيدان الذي غادر البلاد إلى المانيا قبل ان تصدر بحقه مذكرة توقيف، تنظيم الاخوان المسلمين بالوقوف وراء إقالته. تعمقت الهوة التي باتت تفصل الإخوة الأعداء، وبات انعدام الثقة هو العنصر الوحيد الذي يحكم تصرفات التيارات الإسلامية ومعارضيها على رغم تحديد موعد الانتخابات في 26/06/2014. وفي هذه الاجواء اعلن اللواء حفتر في 16 أيار بدء ما اطلق عليها اسم «عملية الكرامة» العسكرية ضد الجماعات المتشددة في بنغازي، وفي اليوم التالي اعلن ان المؤتمر الوطني العام الليبي «غير شرعي ولم يعد الشعب الليبي»، متسلحاً بانضمام الكثير من ضباط الجيش الليبي في المنطقة الشرقية لتحركه، وفي مقدمهم قائد قوات الصاعقة في بنغازي ونيس بوخمادة، وكذلك كتائب الزنتان في طرابلس. وسريعاً جاء الرد من نوري بوسهمين رئيس المؤتمر الوطني الذي وصف العملية بالمحاولة الانقلابية، وحذا حذوه الاخوان المسلمين وبعض الميليشيات الإسلامية كغرفة عمليات ليبيا. وطالب بوسهمين عدداً من الميليشيات بالدفاع عن موقف المؤتمر، فانتشرت قوات الدروع في طرابلس، وانضم جناحها في الشرق الى الميليشيات المتشددة للتصدي لحفتر. لم يستطع حفتر تحقيق أي انجازات عسكرية كبرى في بنغازي وطرابلس على رغم التأييد العسكري والشعبي الذي حظي به. وتقول بعض المصادر المقربة منه إنه «توقع تلقي دعم اقليمي في مواجهته الإسلاميين المتشددين في الشرق والاخوان في الغرب»، إلا ان ذلك لم يحصل، ما تسبب بتراجع تحركه، ومغادرته ليبيا إلى مصر منتصف تموز سعياً الى حشد التأييد والدعم. قبل ذلك، وفي 25 حزيران كانت الانتخابات النيابية قد أُجريت في ظل اوضاع امنية صعبة للغاية، وأظهرت النتائج الاولية الخسارة الفادحة للإخوان والتيارات الإسلامية مجدداً، إذ لم يحصدوا سوى 23 مقعداً من اصل 200، وتوزعت المقاعد المتبقية على التيارات المدنية الليبرالية والفيدراليين والمستقلين. تقول احلام بن طابون إن «الجميع توقعوا مسبقاً ان الحرب ستقع بعد صدور نتائج الانتخابات الاولية، وأن الاخوان سيعلنون الحرب على مجلس النواب الجديد». وبالفعل اندلعت معارك هي الاكبر في طرابلس منذ مقتل العقيد معمر القذافي، حيث هاجمت قوات محسوبة على التيارات الإسلامية وفي مقدمها الدروع كتائب الزنتان التي تسيطر على جنوب العاصمة بما فيها المطار الدولي، بحجة «استكمال ثورة السابع عشر من فبراير»، وأدى القصف الى دمار كبير في البنية التحتية للمطار وتدمير نحو 20 طائرة وإحراقها. وتصف احلام بن طابون التي لا تزال تعيش في طرابلس الوضع بالسيئ جداً، وتوضح ان «عجز الميليشيات عن السيطرة على المطار وجنوب العاصمة دفعها لضرب خزانات النفط»، وتقول إن الحركة داخل طرابلس «صعبة جداً، وثمة نقص حاد في المحروقات على اختلاف أشكالها، وكذلك المواد الغذائية». وفي بنغازي استطاع تحالف قوى ضم تنظيم «انصار الشريعة» و «17 فبراير» و «راف الله السحاتي» مع «درع ليبيا 1» إلحاق هزيمة كبيرة بقوات الصاعقة في 29/7/2014، حيث تمت السيطرة على مقارهم في المدينة، وظهر زعيم «أنصار الشريعة» محمد الزهاوي جنباً إلى جنب وسام بن حميد قائد «درع ليبيا 1» في مقر الصاعقة يعلنان الانتصار على قوات حفتر تحت اسم تحالف جديد هو «مجلس شورى ثوار بنغازي». وفي اليوم التالي أعلن الزهاوي عبر إذاعة محلية أن مدينة بنغازي باتت «إمارة إسلامية جديدة» مطالباً سكان المدينة بالاعتراف بذلك. أثبتت نتائج الانتخابات التي صدرت بعد العملية بعشرين يوماً صحة النتائج الأولية، وتم إعلانها في خضم أزمة كبيرة تعيشها العاصمة على خلفية القتال الذي ادى الى سحب الكثير من البعثات الديبلوماسية ومغادرة العمالة الاجنبية. ويرى محمود شمام أن «الكرة الآن في ملعب التشكيلات المسلحة وكل الاحتمالات واردة بما فيها الانقلاب العسكري»، وأن على رغم الدعم الكبير الذي حظيت به العملية الديموقراطية وجلسة البرلمان التي عقدت في مدينة طبرق بغياب ممثلي الكتل الإسلامية، إلا ان هذا التيار و «إن خسر الانتخابات موجود على الارض ويستطيع ان يُحدث الكثير من العنف»، ويرى ان ثمة حاجة ماسة الى تدخل دولي «محدود» لمساعدة ليبيا ونزع سلاح الميليشيات، ويعتقد ان الدول المرجحة للقيام بذلك هي «الدول الاوروبية المطلة على المتوسط والقريبة منه، وليس حلف الناتو». ولا يزال الإسلاميون على اختلاف مشاربهم يرفضون الاعتراف بالبرلمان الجديد، بحجة عقده في طبرق خلافاً لدعوة رئيس المؤتمر الوطني المنتهي صلاحيته نوري بوسهمين. وفي ظل عدم قدرة البرلمان على العودة إلى طرابلس او نقل أعماله موقتاً إلى بنغازي، يبدو ان إقامته في مدينة طبرق القريبة من الحدود المصرية ستطول. وعلى رغم ما صدر من إشارات عن مصر توحي بتزايد القلق مما يجري على حدودها الغربية، إلا ان شمام يرى ان لا مؤشرات على احتمال تدخل قريب، وأن جل ما ستقوم به هو «تدعيم قواتها على الحدود الليبية»، متسائلاً «إن كانت ستقدم الدعم الى القوى التي تواجه المتشددين؟!» في إشارة الى عملية الكرامة التي يقودها خليفة حفتر. ويبدو أن الأوضاع الامنية في البلاد تتجه نحو مزيد من التدهور في ظل التردد الدولي والإقليمي والعربي في التدخل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ويخشى ان تؤدي الحرب الأهلية التي باتت تتخذ أشكالاً متنوعة إلى تقسيم البلاد، ليس إلى ثلاثة أقاليم وفق الصيغة التي كانت قائمة أيام الملكية في «طرابلس وبرقة وفزان»، وإنما إلى كانتونات قبلية، سيكون بينها إمارة إسلامية على ما يبدو.