مؤلم أن تعود بين حين وآخر لتنبش الأوراق القديمة، وتستعيد أسطراً كنت تعتقد بأن الزمن دفنها أو مزقها بلا رجعة، ولكن الحقيقة لا بد من أن تنطبع وتتربع في البدء، وقبل الانطلاق لصلب المقال وإلى الفكرة الموجعة ذاتها المولودة بسبب مجهول، والتي تتزايد أوراقها الرديئة بفعل فاعل وصمت قادر. الحقيقة تقول: «مجتمع عاجز عن أن يتواجه بشجاعة مع قضاياه المحلية الجارحة، وجراحه الغائرة في نسيجه، هو مجتمع مزاجي بالمنطق، وحاد الطباع على الدوام، ويدخل - مع الأسف - في أزمة تناقضات صارخة لا يستطيع الخروج منها على الإطلاق، وأقصى ما يفعل من أجلها مجرد محاولات خجولة أو حماسة تذوب بالتدريج مع توالي وتتالي العقبات الموضوعة بحكمة وعناية على الطريق». تخجل - بِحَق - من أن تتقاطع في هذا الزمن الحديث مع قضايا اجتماعية ك«زواج القصر، والعنف الأسري»، إذا ما علمنا بأننا الوحيدون الذين نتشدق دوماً بانضباطنا التربوي، وتوازننا الأخلاقي، وبياض الثوب والوجه، ونعلن بجرأة غريبة بأن ما يحدث من طعنات وندوب في صدر المجتمع ليست إلا حالات فردية استثناء لا تستحق التوقف فضلاً عن العلاج. أعود لمجتمعي الحبيب والعاجز عن أن يقف صامداً أمام قضاياه، ومتحرجاً من دون سبب مقنع في التصدي بقوة لمن يمارس الخطأ والجريمة ويدفن الضحايا أحياءً أو أمواتاً، مكتفياً بأن يملأ وقتها الساحة ضجيجاً وتبريراً وأسئلة معلبة تقطع القلوب وتملؤنا بالقهر أكثر من أي شيء آخر. لست هنا لأستعرض ما هي مواجع زواج القصر والفواجع التي تليه؟ ولن أذهب إلى الفضائح التي تسوقها لنا قصص العنف الأسري؟ لكني أتساءل بحرقة هل نحن عاجزون فعلاً عن صناعة حل جذري لهذه المهازل الاجتماعية، وإيقاف النزيف الذي تُحدثه في الأنفس والأجساد والأرواح؟ متى نصبح بالفعل لا القول جريئين وصادقين مع أنفسنا ومن حولنا؟ متى نعاقب بلا خوف من يقف متسبباً في التمهيد لفتاة صغيرة كي تكون ضحية لزواج رديء مبني على ما يشبه البيع والشراء، ويشرع ذلك لنزوات موقتة؟ ومتى نحاسب من يقف بوجه امرأة ويمنعها أو يحبطها لئلا تطالب أو تحصل على حق شرعي سلب منها بقوة ذكورية بحتة؟ ومن يتبرع لإيصال صوت فتى أو فتاة أو أم كان ذنبهم الوحيد أن لهم أباً مجرداً من الإنسانية والرجولة، ومدعوماً بثقافة اجتماعية استوعبت القوامة خطأً، وشرحت التربية بالمقلوب، ولقنت الرجولة بالعضلات! ما نتناوله من قصص اجتماعية مخزية ومخجلة في القريب الماضي يقود إلى مؤشرات مفزعة، ويؤكد أن المجتمع بات يرقص على الجراح نيابة عن النضال لعلاجها، والاستبسال لئلا تولد من الأصل، الجرح والقضية هذه المرة قد لا تتماسا معنا مباشرة، لكن لا يبدو في الأفق ما يمنع ألا تصبح في غمضة عين بأحضاننا، وحينها سنلتهب من أجل حل، لكنه التهاب وحل منافق ومجامل، فالبنيان الاجتماعي لم يعد يشد بعضه بعضاً، بل يشد كل جزء ما يهمه ويَعْلُق به، وهنا البذرة الأولى لانفلات المجتمع بزاوية انحراف حادة. [email protected] @alialqassmi