حمزة كشغري حفيد خالتي الكُبرى، سمّاها جدّي محمد عبدالرحيم قشقري، رحمه الله، «المعروف بمحمد قاري لحفظه وكثرة قراءته للقرآن»، على اسم أمّه الفارسة المُتمرّسة ذات الشعر الطويل التي رافقته صبيّاً وإخوته في رحلة هجرتهم مِن مدينة قشقر «أو كشغر بحسب صيغة التعريب»، إثر الحروب التي انتهت بسيطرة الصّين على المنطقة، ولكنّها لم تصل معهم إلى مكّة، إذ توفّيت في الطريق، كانت بداية وصول الإسلام إلى قشقر في القرن الثامن الميلاديّ، وتقع الآن في مقاطعة شِنغيانغ شمال غرب جمهوريّة الصّين الشعبيّة، ولكن سكّانها الأصليّين المسلمين مِن قوميّة الأويغور التركيّة يسمّونها تُركستان الشرقيّة ويعتبرونها مُحتلّة مِن قوميّة الهان الصّينيّة، ولهم حركة نضاليّة قديمة تُطالب بالاستقلال. قشقر مدينة عتيقة كائنة في أوائل طريق الحرير التاريخيّ المشهور بقوافل التجارة بين آسيا وأوروبا مروراً بالشرق الأوسط، وطالما تخيّلت جدّي صغيراً وأسرته عابرين قارّة آسيا على هذا الطريق. استوطن ومَن تبقّى مِن أهله في مكّة وشبّ هناك، ثمّ تزوّج جدّتي نور عراقي، رحمها الله، مِن أسرة مطوّفين، وعمل سائقاً بين مدن الحجاز ونجد. أنجب خمسة أبناء وخمس بنات كلّهم الآن أجداد وجدّات. كان مُغالياً في شعوره بالعِرفان لوطن تبنّاه وجد فيه الأمان والرزق واستطاع أن ينمو فيه ويحفظ نسله، فما كان يحلم في طفولته بأن يملك يوماً ما شقّة في إستانبول أهداها له ابنه الضابط مهندس السابق. أنا وُلدتُ في بيته بالطائف، وقضيتُ الكثير مِن الوقت في كنفه الكريم الرحيم، ولهوت تحت عرائش العنب وتسلّقت شجرة اللوز التي زرعها، كان يتحدّث لغته الأصليّة مع إخوته وأصدقائه ودائماً يُغنّي بها، آخرها عندما كان على فراش مرضه الأخير بعد طلبي ذلك منه أثناء زيارتي له وأنا طالب جامعي، وإن كان بابتسامة آفلة وصوت مُنهَك. أتذكّره سعيداً قانعاً، ربّما لأنّ ما أنعم الله عليه به كان أبعد مِن أكثر أحلامه طموحاً عندما كان طفلاً مهاجراً لجأ للبلد الأمين، التي لم تتعدّ أن يُطعَم مِن جوع ويأمن مِن خوف، والتي لم تشمل أن يُصبح إنساناً يسكن وطناً يتساوى فيه مع مواطنيه. لذلك لمّا كبر أولاده وتخرّجوا وعملوا واشتكوا مِن قِلّة الراتب، زجرهم بحدّة وذكّرهم أن يحمدوا ربّهم أنّ هذا البلد آواهم وتفضّل عليهم بأسباب رزق. فتجنّب حتّى تعليم أطفاله لغته الأمّ التركيّة (وهي نسخة أقدم مِن التركيّة الحديثة) وقلّل مِن التحدّث بها تحت ضغط جدّتي التي لم تُرحّب بهذا اللسان الأعجمي، على رغم أنّه كان سيُثريهم ويُثريني إن وصلني. وربّما جعلهم هذا أوّل مَن يمتثل للأوامر، سواءً صدرت مِن سُلطات أو تيّارات مجتمعيّة، لتأكيد انتمائهم والذوبان في الجمهور، على الأقلّ هذا جزء مِن قِصّة الخلفيّة العائليّة والاجتماعيّة لحمزة كشغري. هم كانوا مِن ضِمن مَن جرفهم تيّار التشدّد الدينيّ الذي ساد في ثمانينات القرن الميلادي السابق، فالتزموا بكُلّ ما أُمِروا به كواجبات دينيّة وانتهوا عن كلّ ما نُهوا عنه. ربّما بالإمكان تصوّر مدى فداحة أن يجدوا أنفسهم فجأة محطّ الأنظار الناقمة وأضواء الاتّهامات الجسيمة مُسلّطة عليهم. لستُ هنا بصدد نقاش تجاوز حمزة كشغري ككاتب على مقدّسات المجتمع، ولا ما يتعلّق بذلك مِن حُرّيّات العقيدة والفكر والتعبير ومكانها في الإسلام، فحمزة مجرّد شاعر غِرّ شطح في اختيار تعابيره فاعتذر مراراً وأعلن ندمه وتوبته على الملأ وأصرّ على تأكيد إيمانه بالإسلام والرسالة المُحمّديّة، إلّا أنّ فيضاناً هائلاً غمره وطال أسرته وأصله وعِرقه ومدينته ومنطقته بتهييج مِن أطراف عدة، ثمّ تمّت استتابته شرعيّاً، ولكنّه لا يزال تحت التهديد، ولا تزال أصوات تُطالب بقتله وتستنكر عدم القيام بذلك إلى الآن. فماذا يُريدون حقّاً؟ ما معنى أن تتحوّل ردود الأفعال المستنكِرة لما كتبه إلى هجوم عنصريّ غارق في الجهل دفع «شاعراً» لنشر «قصيدة» يصف فيها «قوم» حمزة بأنّهم «لهم دين... وحنّا لنا دين»، وأنّه «قبل أمس يسجد في بلاده لتنّين»؟ لماذا تداعى الغضب مِمّا اعتُبر إساءة للمقدّسات إلى انتهاك لكُلّ حُرماته كإنسان وكمواطن لدرجة وضع خريطة بيته على «الإنترنت» ومجيء أشخاص إلى حيّه بحثاً عنه لإيذائه؟ كيف يحدث كلّ هذا بدعوى الدفاع عمَن سمّاه القرآن (رحمة للعالمين)؟ أيّ عدالة هذه التي تنحصر في قطع رأس شابّ أخطأ في التعبير عن حيرته وهمومه كإنسانٍ خُلق في كَبَد؟ أيّ عدالة هذه التي تتعطّش لإقامة الحدود بينما لا تمنع التفرقة أو تضمن المساواة في الحقوق والمسؤوليّة لحمزة وكثيرين مثله أمام الله والقانون كبشر ومواطنين؟ أيّ عدالة هذه التي يُطالب بها متعصّبون يُصنّفون البشر بأصولهم وخلفيّاتهم الثقافيّة ومهووسون بخُرافات النقاء والتفوّق العِرقيّ؟ «مِن قيل كشغري... فهمت المضامين» كان مطلع «القصيدة»، فهل غالى ردّ الفعل في تجريم حمزة بهذه الشناعة لأنّه تجرّأ على اقتراف كبوة إنسان؟ ألا يوجب هذا التساؤل المشروع في حدّ ذاته طيّ قضيّته درءًا لشُبهة وقوع ظلم عليه كإنسان وكمواطن؟ وما أعظم مِن ظلم العصبيّة المُنتنة هادمة المجتمعات؟ وحيث إنّ العدالة عكس الظلم، فماذا تُملي علينا الآن؟. * كاتب سعودي. [email protected]