مع اقتراب ساعة الصفر لبدء جولة الإعادة بين «السلم» و «الميزان»، أو بين «الجماعة» و «النظام»، أو بين الدكتور محمد مرسي والفريق أحمد شفيق، تبذل جهود عاتية لتحليل ماذا حدث في الجولة الأولى، حتى يمكن فهم – وليس توقع – ما يمكن أن تكون عليه الصورة يوم 30 حزيران (يونيو) الجاري مع وصول الرئيس المصري إلى الكرسي المرتقب! هل جاء اسما المتنافسين المؤهلين للإعادة مفاجأة صادمة؟ هل فقد الإخوان أكثر من نصف الأصوات التي نصبتهم كغالبية في مجلس الشعب (البرلمان)؟ هل كان السيد عمرو موسى مرشح النظام السابق؟ هل تعني نزاهة العملية الانتخابية في مجملها وشفافيتها نزاهة فعلية؟ كيف صوَّت المصريون؟ الطاولة المستديرة التي نظمتها الجامعة الأميركية في القاهرة قبل أيام تحت عنوان «تحليل الانتخابات الرئاسية: التحالفات والتوقعات» وأدارها مدير مركز كمال أدهم للصحافة التلفزيونية الإعلامي حافظ الميرازي خلصت إلى أن المصريين أدلوا بأصواتهم طبقاً لعدد من العوامل، بعضها مستمر منذ عهد النظام السابق، والبعض الآخر استجد على ساحة ما بعد الثورة. أستاذ الاقتصاد السياسي في الجامعة الأميركية في القاهرة الدكتور سامر سليمان يرى أن استمرار دور التنظيمات الحزبية القديمة هو أبرز ما في المشهد التصويتي. «نجح الأول (مرسي) والثاني (شفيق) بالتنظيمات الحزبية القديمة. الإخوان دعموا مرسي، وشفيق دعمه ما تبقى من تنظيمات الحزب الوطني الديموقراطي (المنحل). هذا يؤكد أن السياسة تنظيم، ومن لا تنظيم له، لا سياسة له». سكر وزيت وهذا يعني أيضاً أن جماعة مثل «الإخوان المسلمين» وبقايا الحزب الوطني لم تغير أسلوبها كثيراً، فقد اعتمدت على شبكات التنظيم الاجتماعي، ومعها إمدادات الشاي والسكر والزيت، إضافة إلى الولاء الطائفي والقبلي. ويضاف إلى ذلك التركيز على نزعة الخوف لدى الناخبين. يقول سليمان: «النظام الداعم لشفيق يخيف الناخبين من تيار إسلامي مقبل، والجماعة – من خوفها على نفسها وكيانها وما يعنيه نزول الدكتور عبدالمنعم أبو الفتوح وما يمثل فوزه من دلالة على شق صفها – لعبت على وتر الخوف أيضاً!». ويتمثل الجديد من وجهة نظر سليمان في ظاهرة حمدين صباحي و «إلى حد ما» أبو الفتوح. «فعلى رغم انتماء كليهما إلى تيارات قديمة (ما قبل الثورة)، إلا أنهما استطاعا تجاوز ذلك، لا سيما صباحي، إذ إن أبو الفتوح في الأيام الأخيرة قبل الجولة الأولى ارتد إلى سابق عهده!». فصباحي بتكونيه الأيديولوجي الناصري تجاوز ذلك وتحدث عن «الوطنية المصرية» و «الانفتاح»، «وهو بكلمة «انفتاح» تلك أشبه بالإسلامي الذي يشيد بالعلمانية!». وربما هذا «الانفتاح» الفكري هو ما دعا الكثيرين من شباب الثورة وشباب الأقباط والعمال والبسطاء إلى إعطاء أصواتهم لحمدين صباحي. كسر الاحتكار وعلى وتر ظاهرة صباحي وأبو الفتوح أيضاً، يعزف مدرس الاقتصاد في الجامعة الأميركية في القاهرة الدكتور سامر عطاالله، الذي يرى أن النتيجة الأهم للجولة الأولى هي كسر الاحتكار الثنائي بين الحزب الوطني والإخوان، وهو الاحتكار الذي كان العائق الأكبر أمام عملية التحول الديموقراطي في مصر. ويبدو بالفعل أن كسر شوكة الثنائية القطبية الموجودة في مصر منذ ثورة 1952 هو أبرز ما يمكن قراءته من خلال الانتخابات. ويقول عضو هيئة التدريس في قسم العلوم السياسية في الجامعة الأميركية واختصاصي الإسلام السياسي الدكتور أشرف الشريف أن نسب التصويت لكل من صباحي وأبو الفتوح دليل دامغ على رغبة حقيقية بوجود كتلة ثالثة في المشهد السياسي. ويصف الشريف نتائج الإخوان، أي النسبة التي حصل عليها مرسي في الانتخابات «بالكارثية» وكانت تستدعي استقالة المهندس خيرت الشاطر من منصبه كنائب المرشد العام لجماعة «الإخوان المسلمين»، كما أنها تستدعي دخول الجماعة مرحلة إعادة تفكير. ويتفق معه أستاذ الإدارة والسياسات العامة في الجامعة الأميركية والعضو البرلماني الدكتور عمرو حمزاوي الذي يصف نتائج التصويت للإخوان في محافظات الوجه البحري أيضاً ب «الكارثية». يقول: «ما إن وصل الإخوان إلى مرتبة الغالبية في مجلسي الشعب والشورى حتى ركزوا على محاولات السيطرة على الدولة، وابتعدوا عن الناس، على رغم أن دورهم قبل الثورة كمعارضة هو الذي قربهم منهم. وليس أدل على ذلك من العبارة التي يتفوه بها الكثيرون هذه الأيام وهي: أعطيت صوتي للإخوان في انتخابات مجلس الشعب، لكني لن أنتخب أحدهم مجدداً». التصويت العقابي وهنا يبزغ مسمى «التصويت العقابي» الذي بدا وكأنه شعار الانتخابات الرئاسية المصرية. يقول حمزاوي: «بسبب مجريات الجمعية التأسيسية للدستور، وحراك الرأي العام الشديد الذي نشطه الإعلام، والشعور العارم بأن الإخوان جاؤوا ليهيمنوا على الحياة السياسية في مصر ظهرت جلياً ظاهرة التصويت العقابي ضد الإخوان». وقد تساوى قطبا السياسة التقليديان (الإخوان والنظام السابق) في تعرض كليهما للتصويت العقابي! التصويت العقابي إضافة إلى وجود رغبة شعبية في كسر حلقة سيطرة الإخوان والنظام السابق على المشهد هي التي أدت إلى حصول مرشحي «الكتلة الثالثة» (صباحي وأبو الفتوح) على نحو تسعة ملايين صوت، على رغم عدم وجود تنظيم يجمعها، وهو ما يعني أن هذه الأصوات يمكن أن تكون «خميرة» لقوة سياسية قادرة على المنافسة في الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقبلة، لكن هذا مشروط بوجود «من» ينجح في القيام بعملية التحويل هذه. استحواذ «الإخوان» المؤكد أن «الإخوان» ليسوا مرشحين للقيام بهذه المهمة لأنهم منشغلون تماماً إما بالاستحواذ على ما تبقى من الدولة (منصب الرئاسة)، أو بالانغماس في شؤون الجماعة. يقول الدكتور أشرف الشريف إن لدى الإخوان خططاً لإصلاح أجهزة الدولة، وذلك بناء على تجارب منقولة من ماليزيا وسنغافورة وجنوب أفريقيا، «إلا أن جميعها لا يتناسب والواقع المصري». ويضيف أن «الجماعة تعتقد أن المشكلة تكمن في أن ناساً «وحشة» هي التي تمسك بزمام الأمور في مؤسسات الدولة، وأن حل ذلك يكمن في استبدالهم بناس «تعرف ربنا!». المشكلة هي أن الإخوان ليست لديهم تصورات استراتيجية لآفاق التغيير في المستقبل. لقد دخلوا في صراع مع كل القوى السياسية، بمن فيهم «السلفيون»، وذلك في إطار تكالبهم من أجل الانفراد بالدستور وبالدولة. منطق الحصص غير وارد لديهم من الأصل!». ولأن التيار الإسلامي العقائدي كتلة ضخمة فاعلة لكن من دون قضية، فإنها تواجه مشكلتين رئيستين: الأولى هي الهيمنة على الماكينة الدعوية، والثانية هي الخوف من عودة الإقصاء الذي تعرضوا له قبل الثورة. ويرى الشريف أن منطق السلفيين في تأييد الدكتور أبو الفتوح في الجولة الأولى كان بناء على فكرة تأييد «أحسن الوحش (السيئ)» بين المرشحين الإسلاميين. ويرى الشريف أن السلفيين لا يعتبرون الرئاسة معركتهم، مع العلم أن لفظ «السلفيين» يختزل الكثير من التيارات، وليس تياراً واحداً فقط. «في الانتخابات البرلمانية كان الهدف دولة إسلامية، فنزل الجميع. لكن، ليست لديهم فكرة الحشد كالقطيع». ويدلل حمزاوي على ذلك بقوله إن حصول حزب «النور» السلفي على نسبة 20 في المئة من المقاعد في مجلس الشعب لا يعني أن السلفيين لهم تنظيم. «السلفيون يشعرون بعدم الرضا لأن الوضع الحالي يشير إلى أنهم سيظلون دائماً الطرف الأضعف داخل الإسلام السياسي». الرجل الطيب ظاهرة أخرى في المشهد السلفي يشير إليها الدكتور سامر سليمان، وهي خروج «الرجل الطيب» حازم صلاح أبو إسماعيل من الصراع على منصب الرئاسة، وهو «الخروج الذي أراح كثيرين، لكن تبقى الظاهرة خطيرة لإمكانية عودتها في شكل جديد. فقد عمل أبو إسماعيل بطريق شعبوية بسيطة جداً ونجح في تكوين قاعدة عريضة من المؤيدين، وهذا يعني احتمال تكرار الظاهرة من قبل تيار متشدد في المستقبل». ويظل المستقبل غير مبشر، على الأقل في ما يختص ببرامج المرشحين مرسي وشفيق. يقول الدكتور سامر عطاالله أن كليهما لم ينحَزْ لمبدأ العدالة الاجتماعية، أحد أبرز أهداف الثورة. «علينا أن نتوقع استمراراً للاحتجاجات الاجتماعية والاقتصادية، وعدم توقع أي تغيير جذري في المستقبل القريب. ويتفق سليمان مع عطاالله في أن الحديث عن مميزات المرشحين سيختفي تماماً في جولة الإعادة التي – للأسف – أعادت للناخب ثقافة الخوف والتي ستكون المحرك الرئيس في عملية التصويت، إما الخوف من التيار الإسلامي، ومن ثم التصويت للنظام السابق، أو الخوف من النظام السابق ومن ثم التصويت للتيار الإسلامي. وينضم إليهما حمزاوي الذي يؤكد أنه في الوقت الذي لوحظ وجود مقدار من التصويت السياسي في الجولة الأولى، سيختفي ذلك تماماً في جولة الإعادة. تحليل وليس تكهناً لكن التكهن بنتيجة الإعادة شبه مستحيل، فالمصريون يعيشون اليوم بيومه. وتبدو فترة أسبوعين طويلة جداً، فخلال أسبوعين صعد نجم حمدين صباحي بطريقة غير متوقعة كونه «مرشح بلطيم» (المدينة التي ولد فيها) إلى «مرشح لفئة عريضة من الشعب المصري». لكن هذا لا يعني عدم القدرة على التحليل. الشريف يرى أن أي شد وجذب بين الإخوان والعسكر هو بمثابة كسر في قمة جبل الجليد، لكن ما خفي في باطن الجبل هو الأعظم. ويبدو أن معركة تأسيسية الدستور وسلوك الإخوان غير الرشيد جعل العسكر يحسم اختياره، ويصل إلى قناعة بأنه لا بد من وجود رئيس موالٍ. «كلا الطرفين، العسكر والإخوان لا يميل إلى فكرة تسييس الشعب. والجماعة ترى أن فرص أحمد شفيق في الفوز أكبر، بالذوق أو بالعافية، بالتزوير أو من دون. وهم جاهزون للتقاوض لأنهم غالباً سيخسرون». نزاهة وخروق والمؤكد أيضاً أن نزاهة الانتخابات لا تعني بالضرورة غياب الخروقات، صحيح أن الناخب هذه المرة ذهب لاختيار مرشحه من دون تزوير من الناحية القانونية، لكن تفضيلات هذا الناخب تحمل الكثير من تغيير الإرادة معنوياً، وذلك بين تصويت عقابي، واختيار أحسن السيئين، ومقايضة المواد التموينية وغيرها من وسائل التحكم غير المباشر في الإرادة. المؤكد أيضاً أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة لا يلعب ببطاقة سياسية واحدة فقط، بل يطرح اختيارات عدة ويتكيف مع الواقع السياسي الجديد، ويلعب فيه باعتباره أحد الأطراف. المؤكد كذلك أن الانتخابات أسقطت نظريات المؤامرة، ولو إلى حين. فخروج عمرو موسى يعني أنه لم يكن مشروع النظام، وخروج أبو الفتوح يعني أنه لم يكن مرشح الإخوان الخفي. ويتضح أيضاً تماماً أن الساسة يلعبون في «غرفة مظلمة» – على حد تعبير حمزاوي. فلا استطلاع رأي حقيقي، ولا دراسة بحثية على ميول الناخبين يمكن الاعتماد عليها، وثبت بالحجة والبرهان أن الغالبية المطلقة من الاستطلاعات كان الغرض منها توجيه الناخبين وليس قياس توجهاتهم. وكانت نتيجتها ذيوع نظرية «أعط صوتك لمن هو مرشح للفوز» وفق نتائج الاستطلاعات المزعومة.