بعد أكثر من ربع قرن في كتابة القصة، لا تزال الكاتبة الإماراتية مريم جمعة فرج تشعر أنها لم تفرغ بعد من تجريب إمكانات كثيرة، متوافرة في ما يحلو لها تسميته بكاميرتها السحرية. فالكتابة القصصية بالنسبة الى هذه القاصة، التي تعد اسماً مؤثراً في بلدها وأحد أبرز الكتاب والكتابات في منطقة الخليج، تشبه الكاميرا المصممة لتستجيب متطلبات اللحظة، وهي تشعر تبعاً لذلك بأن لديها واحدة تعاملها مثلما تتعامل هي معها بحميمية، وتفسح لها المجال للتجريب. وتتفق الكاتبة مع إرنست همنغواي في أن الكتابة «بناء شيء شبيه بفن العمارة والتصميم المعماري وليس الديكور». وترى أن المعماري هنا «فنان لديه ثقافة وخيال وكذلك الكاتب». تلج مريم جمعة فرج دواخل شخصياتها، من نساء ورجال، وتلامس بحساسية عالية همومهم وقضاياهم، وتضيء أحلامهم حتى الضائعة منها. عبر الاشتغال الدقيق واللغة الشعرية، تتحول الشخصيات مهما كانت فقيرة ومهملة في كتاباتها، إلى كائنات مميزة، ثرية وعميقة. صورت أحوال الإنسان الإماراتي في مرحلة ما قبل النفط، كما في الفترات التي تلت ظهوره، وعكست تبدل حياته من طور إلى آخر. وعلى رغم انحيازها الى الأدب النسوي، فإنها تتخطى ما بات فهماً ضيقاً ل «النسوية»، وتكتب قصصاً شخصياتها الرئيسة رجال، لكن ليسوا متسلطين ولا «ذكوريين»، بل مسحوقون وهم موضوع لقهر الظروف ونظرة المجتمع، أي ضحايا شأن الضحايا الآخرين، ما يجعلها كاتبة نسوية وإنسانية في الوقت نفسه. تنم قصص مريم جمعة فرج عن شغف باللغة، بما هي لعب فني مسؤول. على أن هذا اللعب لا يجعل الخصوصية المجتمعية والثقافية الإماراتية التي تحرص الكاتبة على توظيفها تتوارى. وتقول إنه لو فاجأتها كاميرتها في مرة من المرات بالتقاط صورة أكبر حجماً، وتحتاج إلى زمن أطول للتفكير فيها وتفكيك محتواها وإعادة تشكيله، عندها ستتذكر أحد هؤلاء الكتاب الذين يشتغلون على اللغة، ويقيسون بها كل شيء، الوطن، والمرأة، الحياة والموت والهوية. يروق لها الكتاب الذين يعنون باللغة، في الوقت الذي لا يهملون فيه الحدث، من أمثال الروائي الإرلندي وليم تريفر مؤلف «قاعة الرقص الرومانسية»، التي ترجمها الكاتب فاضل السلطاني. تبهرها لغة تريفر، الذي يلقب ب «تشيكوف القرنين العشرين والحادي والعشرين معاً»، تقول إن هذا الكاتب الذي أمضى ما يقرب من 53 عاماً في كتابة القصة القصيرة، التي تحرك المشاعر بكلمات قليلة، «يبحث عن شيء مثل الروح بالنسبة الى القصة، موجود في اللغة يقوم بتحريكه والعبث فيه بتجريبه». تبني مريم فرج، التي ترى أن أخطر وظيفة للكتابة هي التواصل، ليس مع الآخرين فقط وإنما بين الكاتب ونفسه «ليكشف عن مكنونها بجماله وتعقيداته»، قصصها من وقائع حقيقية، تعايشها بنفسها أو تسمع عنها، لكنها تعمد إلى التحوير والتحريف وإعادة الصوغ. وقصصها بقدر ما تفتش عن صيغ جمالية وتستدرج تقنيات سردية جديدة، فهي أيضاً تتلمس طرائق مختلفة لتوظيف بعض خصائص المجتمع الإماراتي. من قصصها البديعة واحدة بعنوان: «رقص الفناجين»، التي نشرت في «الحياة»، وتحكي قصة امرأة تحيط الشكوك بأخلاقياتها ويكتنف حياتها الغموض، لا لشيء سوى أنها اختارت العمل في مهنة ينظر إليها بدونية، وحتى لا تنعكس هذه المهنة التي تمارسها على محيطها الأسري، فهي تلجأ إلى السرية في مشاويرها لممارسة هذه المهنة في حفلات الزواج أو مجالس العزاء. تقول مريم جمعة عن المهنة التي تمارسها الشخصية الرئيسة في القصة، المبنية على قصة حقيقية، «الواقع أنها مهنة تبدو كما لو أنها من اختراع امرأة وجدت نفسها في ظروف مادية صعبة، فابتكرت بذكاء وسيلة للخروج من هذه الأزمة». عمدت الكاتبة إلى كتابة القصة بأسلوب يتناسب مع أجواء الغموض، التي تحيط بالمهنة التي تمارسها الشخصية. ومن خلال تنامي القصة تكشف سطوة النزعة الذكورية، وتفشي التراتبية في المهن وفي طبقات المجتمع التي يمارسها، إضافة إلى توظيف لافت ومثير للإعجاب للمرجعية الثقافية في الإمارات، مثل بعض المسميات التي تحمل خصوصية مجتمعية وتؤشر إلى هوية راسخة، ومنها مفردة «دلال» جمع دلة، آي آنية القهوة، وهي تشبه في لفظها كلمة دلال وغنج. «وكذلك كلمة «شبق» وهو الخيط الذي يربط به البرقع على الوجه وهو يشبه مفردة «شبق»، والبرقع أبوعيون طويلة الذي يبرز جمال المرأة». على صعيد القضايا والمواضيع تكشف صاحبة «فيروز» أن في مجتمع الإمارات كما في غيره من المجتمعات الخليجية «الكثير مما لم يتم التطرق اليه، وما يتوجب البحث عنه وفيه، ومهمته تقع على الكتاب والمبدعين من أجل الكشف عن الذات الإنسانية، وتفاعلاتها في الحياة اليومية بطريقتهم». لم تكتب مريم فرج غير القصة، ولا يشغلها النقاش عن سطوة جنس أدبي ما على آخر، فهي تؤمن بخطورة القصة، «ولا يقلقني ما ينتشر الآن من مقارنة بين الأنواع الأدبية، واعتبار أن مرحلة ما هي مرحلة القصة أو الشعر أو الرواية دون غيرها من الأجناس الأخرى». وتؤكد أن الإبداع سواء أكان شعراً أم رواية أم قصة، يتحرك في اللحظة نفسها وفي خطوط متوازية، «وربما امتزجت هذه الخطوط اليوم، فنتج منها تداخل كما هو الحال في الرواية والقصة والشعر، على رغم أن بعضهم لا يحبذ مثل هذا التداخل». وتوضح أن الإبداع يتفاعل ولا يموت وأن ما يشاع عن موت نوع أدبي، هو في تصورها «مخاض عسير لا أكثر، وإلا لماتت الرواية ومات الشعر منذ اختراع الآلة الطابعة واختراع القصة القصيرة». وهي ككاتبة منحازة الى القصة، إذ تركز جل وقتها واهتمامها من أجلها، تؤكد أن القصة القصيرة لن تنتهي، ولو حدث شيئ كهذا فسيكون مجرد خروج على المألوف، «تطوير مثلما يحدث انقلاب إبداعي أحياناً، سمّه حداثة، ما بعد الحداثة أو ما بعدها. كل الأنواع الإبداعية لا تستقر على حال، طالما العقل الإنساني باق ويجرب». تعتبر مريم جمعة فرج كاتبة مقلّة، قياساً بتجربتها العريضة، فهي لم تصدر سوى مجموعتين قصصيتين وثالثة مشتركة، إلا أن قصصها على قلّتها، تشكل منعطفاً في القصة الخليجية، لما لها من خصوصية فنية وجرأة في التجريب، والخوض في مواضيع شائكة. لا تشغل مريم كتابة الرواية، إلا أنها تعبر عن تفاؤلها بمستقبل الرواية في الخليج، «فهي قطعت شوطاً لا بأس به في مدة قصيرة، خصوصاً من حيث الكم. كما أن المرأة استطاعت أن تعزز مكانتها على خريطة الرواية الخليجية». عامل الاستقرار الذي تنعم به منطقة الخليج، إضافة إلى الظروف الاقتصادية المريحة وظروف النشر، والتشجيع والجوائز الأدبية التي تحرض الإبداع، الشبابي منه على وجه الخصوص، والترجمة، كلها أمور تدفع مريم إلى أن تراهن على مستقبل أفضل، بالنسبة الى الإبداع الخليجي وفي مقدمه الرواية. وتأمل بألا يتغلب الكم في الرواية - مثلاً - على الكيف. كما تتمنى أن يكون مفهوم الرواية كتكنيك وعالم معقد ومتشابك، واضحاً بالنسبة الى الكاتب الخليجي، «لا أريد للرواية التي يكتبها الشباب أن تنساق وراء مبدأ الفوز بالجوائز، وسرعة الانتشار على حساب خصوصيتها وقيمتها الفنية والفكرية، لا سيما أن هناك تركيزاً على موضوعات معينة لا تبرحها، وتناول كل ما هو مثير وفي نطاق المحرّمات الاجتماعية والدينية، التي يعتقدون أنها الوسيلة الأسرع إلى الشهرة». وإذا كانت الرواية التي تكتب اليوم في الإمارات لا تعاني هوساً بقضايا الإثارة، فإنها من جهة أخرى لديها، كما تقول مريم جمعة، مشكلتها في ما يتعلق بالأساليب الفنية والتقنيات السردية، «هناك جيل مبشر من الروائيين وكتاب القصة من الجنسين، وإن كانت المرأة تتصدر المشهد، ولا تزال كاتبات مرحلة التسعينات في المقدمة بفضل هذه الموهبة التي لا نشعر بها الآن إلا بالكاد، في ظل مشكلة العناوين والأغلفة المثيرة وتراخي دور النشر». تتابع صاحبة «ماء» عن كثب المشهد الثقافي في الإمارات، وتتأمل ما يستجد وما يطرأ من تغير. ومن خلال هذه المتابعة، يتأكد لها وجود توجه لدى المعنيين، في تفعيل الثقافة وتطوير آلياتها ومفاعليها، «هذا التوجه ناجم في أساسه عن الإحساس بوطأة الفراغ الثقافي، وأيضاً الاعتراف بدور الثقافة في حياتنا كمجتمعات حديثة». إلا أن جمعة فرج تتمنى وجود استراتيجية ثقافية يضعها المثقفون أنفسهم، «استراتيجية جديدة تضمن المشاركة الحقيقية. والحقيقة أن لدينا في الإمارات مشاريع كثيرة وبعضها متشابه، وبعضها يميل إلى التقليدية، بينما بعضها يتحرك باتجاه البحث عن نشاط فعال يحقق طموحنا. أنا لست متشائمة ولكن الثقافة لدينا تحتاج إلى نقلة نوعية، تجعلها فاعلة في حياة أجيالنا الشابة، إنها صمام الأمان». وعندما تتحدث مريم جمعة فرج عن الثقافة في الإمارات، وفي دول الخليج، فهي تدرك أنها جزء لا يتجزأ من الثقافة العربية، «لنكن واقعيين، فثقافتنا في الخليج لا تستطيع أن تكون فاعلة من دون هذا البعد». وتقول إن المثقف والكاتب لا يمكنه اليوم أن يعيش في عزلة، أو يقرر اعتزال العالم، «كل ما هو جديد ووافد، وكل ما هو مستجد ضروري وموجود يثري الواقع ويؤثر فيك، يضيف إلى فضولك ككاتب، وإلى تجربتك كمكتشف أياً كان حجم أو مصدر هذه الفرديات التي تكتشفها أحياناً». شغفها باللغة قادها، كما تقول، إلى الاهتمام بالترجمة، وفي عالم الترجمة وجدت نفسها تنجذب إلى ما تبدعه المرأة الكاتبة في أي منطقة في العالم. وتوضح أن هذا الاطلاع يمنحها مزيداً من الوعي بقضاياها، كما بالخصوصية التي تميز الإبداع النسوي «أقول الإبداع النسوي ولا أخجل من هذا، على رغم أنني أعي جيداً أن الكتابة مسألة إنسانية، لكن عندما تكتب المرأة تترك بصمتها وروحها، في هذا الإبداع». وتقول إنها لو خيّرت بين الانحياز الى الكتابة أو «الجندر»، فستختار الاثنين. وترى أن الإبداع النسوي، «يستطيع بسطوته أن يرسخ مفاهيم وأساليب للتعامل بين المرأة والرجل في المجتمع». وفي ضوء «الجندر» فإن المرأة، وفق مريم جمعة، تبحث عن دور مهم يليق بإنسانيتها، وأن تكون كاتبة «بمعنى أن يحق لها أن تعبر عن أفكارها كما يعبر الرجل، لتكتب المرأة عن تجربتها الشخصية أو تجربة امرأة أخرى ما المشكلة؟ وقد لاحظت في الفترة الأخيرة إنتاجاً غزيراً لكاتبات خليجيات وعربيات، يصب في هذا الاتجاه وهو جميل ولا ينبغي أن ينظر إليه بازدراء أو على أنه ضعف في المستوى الفكري للمرأة». وتكشف أن مشروعها المتعلق بالكتابة عن إبداع المرأة، وترجمة هذا الإبداع، «ما زال مستمراً. إنها مسألة بحث علمي وليس ترجمة فقط». وكانت مريم فرج أصدرت كتابها الممتع «امرأة استثنائية»، جمعت فيه ترجمات من الإبداع النسائي العالمي، لعدد من الكاتبات المؤثرات في العالم، مثل دوريس ليسنغ وتوني موريسون وإيزابيل الليندي وشيكيبو موراساكي وغيرهن.