كان من الممكن أن يتم الخوض في مسألة محاكمة الفنان عادل إمام عبر مداخل عدة، إذ يمكن أن يحدث ذلك عبر المدخل الفني أوالثقافي أوالاجتماعي أو السياسي أو القانوني، أما أن يتم ذلك عبر المدخل الديني وباسم الإسلام فذلك لعمري خصوصية عجيبة! من المعروف بداهة في عالم الفن والأدب أن المرح بل السخرية في بعض الأحيان تمثل إحدى الطرق التي لا يمكن الاستغناء عنها في عرض ظواهر اجتماعية وسياسية وجعلها جزءاً من الحراك الشعبي الذي يطاول المواطنين على اختلاف مشاربهم الفكرية والسياسية ورغم تفاوت درجاتهم العلمية، فعلى الفن أن يوصل رسالته الى المتلقي بغض النظرعن انتمائه المجتمعي وسواء كان أمياً أم أستاذاً جامعياً أم مثقفاً لامعاً. من هذا المنطلق يمكن القول إن عالمنا العربي والإسلامي يحتاج إلى المزيد من هذا الفن لا إلى الحد منه، بل علينا أن نرفع عن العاملين في هذا المجال التحرج من تناول إشكاليات المجتمع، وذلك بتشجيع المبدعين في فنون الكاريكاتور والإخراج والتمثيل مسرحاً وسينماً وتلفزيوناً. من المعروف أن لفن السخرية فضاء واسعاً للمبالغة بل حتى الاستفزاز يكون فيه للفنان مساحة أوسع من غيره لإيصال فكرته، ليس فقط إلى عقول الجماهير بل إلى عواطفهم وقلوبهم بحيث يضحكون بل ويقهقهون وهم في اللحظة نفسها يفكرون في الموضوع المطروح أمامهم. ولكن هل معنى ذلك أن يحصل الفنان على «شيك على بياض» يمكنه من التطاول على الذات الإلهية مثلاً؟ أو السخرية من الأديان السماوية؟ الجواب المباشر هو بالطبع «لا». لكن المصيبة في موضوع عادل إمام أن أفلامه الموضوعة للمساءلة اليوم سواء «الإرهاب والكباب» أو «الإرهابي» أو حتى غيرها لم تتعرض للذات الإلهية أو حتى لجوهر الرسالات السماوية لا من قريب ولا من بعيد، بل هي أفلام تناقش ظواهر دينية واجتماعية وسياسية ملموسة ولا يمكن لشخصين الاختلاف على وجودها، ناهيك بأن عادل إمام ناقش ظواهر أخرى بالطريقة نفسها، فمثلاً في فيلمه «الزهايمر» كان الطبيب خائناً لشرف مهنته ولثقة مريضه في المؤسسة الطبية، فهل ينبغي على نقابة الأطباء أن تقوم بمقاضاته بتهمة تشويه سمعة الأطباء وتحقير الطب! من يتصور مثل ذلك؟ ثم ماذا عن فيلمه «السفارة في العمارة» حيث جعل من حماية الأمن المصري لسفارة إسرائيل وكذلك وضع السفير الإسرائيلي في مصر محط سخرية لاذعة ما بعدها سخرية، هل كان على وزارة الداخلية أن تحاكمه وتزج به في غياهب السجن؟ هل يريد أحد أن يفهمنا أن للشخص الملتحي أو للرجل المعمم أو للمرأة المنقبة في مجتمع حرٍ متعدد ديموقراطي قدسيةً خاصةً تضفي عليهم حصانةً تمنع تناولهم عبر أي نقد أو بواسطة كاريكاتور أو حتى باللجوء إلى الكوميديا؟ ما نقوله هو العكس تماماً، إذ إن أي حصانة لهؤلاء ستشكل خطراً على المجتمع، لأنهم كغيرهم من بقية أعضاء المجتمع يخطئون ويصيبون، ولا يمكن أن يعتبر تناولهم بالنقد ووضعهم تحت عدسة النقد الفني بأي حال من الأحوال تهكماً على الدين الذي ينتمون إليه خصوصاً إذا كان هذا الدين دين الغالبية في ذلك البلد أو حتى ديناً رسمياً للدولة، كما هي الحال في مصر، فلا عقيدة التوحيد في خطر ولا الرسالات السماوية ستطمس!ترى هل قرأ أحد ممن يقف خلف مقاضاة عادل إمام تاريخ محاكم التفتيش في العصر الوسيط ؟ وهل تمعن بعواقبها على التدين وعلى المتدينين في أوروبا؟ أما إذا نظرنا إلى الأمر من الناحية القانونية والقضائية فإننا سنفتح عبر قضية عادل إمام وبالإصرار على تجريمه باباً لن يستطيع أحد أن يغلقه، فعادل إمام جزء فاعل ضمن منظومة فنية تشمل الكاتب والمخرج وكاتب السيناريو والمنتج والفني... إلخ، ترى كم ومن ينبغي علينا أن نحاكم حتى تتحقق العدالة ؟ أما سياسياً فمن المعروف أن هناك فجوة باطنها جفوة بين الإسلاميين كساسة جدد والأوساط الفنية، خصوصاً السينما والمسرح والتلفزيون، ترى أليس من الأفضل للجميع أن يدفع بالتي هي أحسن حتى تتآلف القلوب وتلتقي على جسور إرادة الخير لمصر ولأهلها؟ أيمكن لهذا أن يكون على أبواب المحاكم أو في غياهب السجن؟ إن النهوض بمصر وانتقالها الحثيث إلى الديموقراطية يحتاج إلى وسط ثقافي متفتح مع مساحة واسعة للنقد وللرأي وللرأي الآخر من دون أن يعني هذا تطابق الآراء وتناغم العواطف بل عليه أن يعكس سعة دائرة الاحترام المتبادل في ظل تآلف اجتماعي وثقافي للاختلاف. قد يكون من المتوقع بل من المفهوم أن يكون للطغاة وللمتجبرين دور في كم الأفواه وقمع الحريات أما أن نقوم بذلك باسم الشريعة الإسلامية وبدافع الغيرة على الدين الحنيف ففي هذا ظلم لهذه الرسالة السماوية السمحة وانتقاص من أفهام أتباعها.إن هناك في العالم، شرقِيّه وغربِيِّه، بما يحويه من حركات يمينية جعلت من العداء للإسام بؤرة تجمع أتباعها وبوصلة توجههم، فمن سيرقص فرحاً بالحكم على عادل إمام بالسَّجن؟ إذ سيحصل هؤلاء بهكذا حكم على الذريعة الفاقعة لمهاجمة المسلمين وبالتالي الإسلام لثبوت تهمة كونهم أصحاب دين لا يؤمن بالحريات الشخصية وباعتبار هذا الدين لا يعطي لحرية الرأي أوالنقد الفني حيزاً للتعبير. بعد كل هذا لا يبقى لنا إلا أن نتمنى على القضاء المصري النزيه أن يلقي بكلمته الأخيرة في هذه القضية بعيداً عن الحسابات السياسية ووفقاً لمبادئ العدالة وحسب، بحيث يتم إغلاق ملف مثل هذه القضايا في مصر الديموقراطية وحرية الرأي وحق التعبير إلى غير رجعة.