لم يكن الأمر في حاجة إلى إثبات. فلقد كان واضحاً بالقدر الكافي، أن ثمة تحالفاً سرياً مريباً بين الطرفين، على رغم ما يظهر على السطح من عداء مفتعل تعبر عنه التصريحات المتبادلة التي تبلغ أحياناً حدّاً غير معهود في العلاقات الدولية، من السخونة والرعونة والضراوة. ولذلك لم يفاجأ العارفون ببواطن الأمور، بما أدلى به أخيراً المؤرخ والصحافي الفرنسي اليهودي ألكسندر آدلر، من أقوال صريحة إلى حد مفرط، جاء فيها على الخصوص: «لا أعتقد أن الإيرانيين أرادوا في أي يوم، امتلاك القنبلة النووية لتهديدنا نحن اليهود، وأن الهدف في الحقيقة كان بلوغ التفوّق على العالم العربي، والعالم العربيّ السنّي». ولم يكتف بذلك بل زاد الأمر وضوحاً وأمعن في الصراحة، وقال: «أرى أن الشعب الإيراني هو الأقرب إلى الشعب اليهودي، وإذا كان ثمة بلد محصَّن ضد العداء للسامية، فهو إيران». ثم وصل إلى ذروة المكاشفة التي هتكت الأستار وكشفت الأسرار وأزالت كل غموض، فقال: «أعتقد أن العدو الرئيس هو تجمّع المتشددين المسلمين السنّة العرب - انطلاقاً من مصر التي كانت على الدوام البلد الجدي الوحيد في المنطقة - الذي يوشك على ترتيب محاصرة إسرائيل والتحضير للهجوم عليها بين يوم وآخر». لقد جاءت هذه الأقوال التي أدلى بها المؤرخ الصحافي الفرنسي اليهودي ألكسندر آدلر، في مقابلة أجرتها معه الإذاعة الثقافية في فرنسا –FRANCE CULTURE-، بمناسبة صدور كتابه «شعب هو العالم: مصائر إسرائيل». كما وردت هذه التصريحات في حوار له مع (المركز الملي العلماني اليهودي) في باريس، ونقلها الكاتب صبحي حديدي في مقال له نشره في «القدس العربي» يوم 14 آيار/مايو الجاري بعنوان «اليهود المحافظون ومعاداة الثورة». والواقع أن تبادل المصالح بين إسرائيل والنظام الطائفي البعثي النصيري القمعي في سورية، ليس بالأمر السري؛ فمنذ أن استولى البعث في ظروف غامضة، على مقاليد الحكم في سورية عام 1963، وبخاصة بعد أن استفرد بالحكم عام 1966، وهو على صلة وثيقة بإسرائيل... وقد تطورت هذه الصلة وازدادت قوة ووثوقاً، حينما قام حافظ الأسد بانقلابه الذي سمّاه «الحركة التصحيحية» عام 1970. وقد أظهرت التطورات الأخيرة أن بقاء نظام بشار الأسد الذي ورث هذه العلاقة القوية مع إسرائيل عن والده حتى اليوم، على رغم مضيّ أكثر من أربعة عشر شهراً من الانتفاضة الشعبية ضده، إنما مرجعه إلى وقوف الدولة العبرية إلى جانبه في شكل أو آخر، وتأثيرها الضاغط الذي تمارسه على كل من روسيا والولايات المتحدة الأميركية لوقوفهما إلى جانب هذا النظام الطائفي الفاسد؛ الأولى بالانحياز الكامل والمطلق والمعلن إلى هذا النظام، تحميه وتقف دون إدانته في مجلس الأمن وصدور قرار ضده في إطار البند السابع من ميثاق الأممالمتحدة وتزوده بالأسلحة وبالخبراء، والثانية بالتخاذل المقصود وبتمييع الموقف الذي يطبع سياستها وترددها إزاء اتخاذ القرار المناسب في شأن ما يجري في سورية من انتفاضة وبوضعها للعراقيل، بطرق في غاية المكر والخداع، أمام الإطاحة بالنظام من خلال الوقوف مع الشعب المنتفض الرافض لحكم الطغيان والجبروت والقهر الذي دام أكثر من أربعة عقود. وإذا كانت هذه الأقوال تصدم مَن يجهل طبيعة العلاقة القائمة بين النظام الطائفي القمعي السوري وبين إسرائيل، بسبب من انخداعه بالدعاية المكثفة التي تخصصت دمشق في إدارة آلاتها، فإن حقيقة الأمر تؤكد بما لا يرقى إليه الشك، أن الطرفين يلتقيان في محطات كثيرة، ويخدمان أهدافاً مشتركة؛ أولها أن تتمزق العلاقات بين الأشقاء في المنطقة، وأن يزج بالدول العربية في أزمات وخلافات وصراعات بدءاً بلبنان، ومروراً بالعراق، وانتهاء بالبحرين وبقية دول الخليج العربي في المرحلة الحالية. فهذا هدفٌ حيويٌّ مشترك بين دمشق وتل أبيب وطهران يقع التعتيم عليه بطرق شتى، منها ادعاؤها (المقاومة والممانعة) الذي ثبت منذ البداية أنه ادعاء باطل كل البطلان، وزعمها بأنها قلب العروبة النابض، وكأن العواصم العربية الأخرى قلوب ميتة، ورفعها الشعارات القومية انطلاقاً من مقولة البعث «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة». وهو هراء لا طائل من ورائه وكلام مرسل لا أثر له في واقع السياسة التي تنهجها دمشق على الصعيدين العربي والإقليمي. وعلى رغم ممارسة أبشع أساليب التضليل والتعتيم وترويج الأكاذيب والادعاءات الباطلة والاختفاء وراء الشعارات الخادعة، فإن ثمة أكثر من صلة بين الحرب التي تشهرها دولة طائفية ذات مطامع غير بريئة معلنة، ضد دول المنطقة، وبين السياسة العنصرية الاستعمارية الصهيونية التي تمارسها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني. فكلتا السياستين تسير في اتجاه واحد، وهو زعزعة الاستقرار في الدول العربية، وخصوصاً في دول الخليج العربي المهددة في سيادتها وسلامتها الإقليمية وفي ثرواتها ومقدراتها ومستقبل شعوبها، وفتح الأبواب أمام القوى الأجنبية للتدخل بطريقة أو بأخرى، وتحت هذا الغطاء أو ذاك، لاستنزاف الدول العربية القادرة، ولإفزاعها بالمخاطر التي تتربص بها وإظهارها كما لو أن العدوان عليها وشيك الوقوع، حتى تبقى أسيرة للضغوط والإملاءات التي تفرضها الدول الكبرى ذات المصلحة في تفجير الأوضاع في العالم العربي، بل في العالم الإسلامي برمته. وإسرائيل والدولة الطائفية المتربصة بالمنطقة، هما المستفيدتان بالدرجة الأولى، في كل الأحوال، من هذه الأوضاع القلقة المضطربة التي لا تخدم مصالح شعوب المنطقة. إن هذا الجانب من الأزمة التي تشتعل في سورية وفي منطقة الخليج العربي، آن الأوان ليكشف عنه القناع على نطاق واسع في وسائل الإعلام جميعاً، ومن فوق منابر المؤتمرات الدولية والإقليمية، لأن زمن التعتيم والتضليل قد ولى، ولأن الخطر الحقيقي يأتي من عدم كشف الحقائق التي وإن كانت تصطدم بعضهم، فإنها تنقي الأجواء من الغيوم المصطنعة التي تخفي هذه الحقائق. تلك هي الواقعية في التعامل مع الأزمات، المصارحة والمكاشفة والوضوح الكامل وكشف الأوراق كلها على الطاولة، حتى يتبين في السياسة الإقليمية، الخيط الأبيض من الخيط الأسود وينكشف الغطاء. * أكاديمي سعودي.