اشتعل الجدال غداة الاقتراع لاختيار الرئيس الأول لمصر خلفاً لآخر «فرعون» جاء إلى الحكم من دون انتخاب. شعر المصريون بأنهم اقتيدوا إلى مقلب يضعهم أمام خيار من اثنين: السيء والأسوأ، بحسب الموقع الذي يؤيدونه أو يقفون فيه. في اللحظة ذاتها كان السوريون يتعرّفون بذهول إلى آخر الأهوال التي يرتكبها النظام بدم بارد وبتصميم وإصرار، مجازر بشرية تلو مجازر، واعداً بالمزيد منها، حتى لكأنه لقّن العالم أن يرى جثث الأطفال كمشهد عادي، بدليل أن مجلس الأمن تحوّل في بيانه بعد مجزرة الحُولة مجلساً للتعازي الدولية. هذه حال الأمة مختصرة بنقيضيها: حاكمٌ مستبد مخلوع ينتظر وراء القضبان أول الأحكام عليه، وحاكمٌ مستبد لم يخلع بعد ولا يتردد بالمجازفة بالشعب والدولة والجيش واستدراج البلد إلى حرب أهلية من أجل أن يبقى في السلطة، ولن يبقى... في الحالين كانت يقظة الشعب، ولو متأخرة، هي التي صنعت الفارق، لكن كانت وقفة الجيش هي التي حقنت الدماء في مصر، أما في سورية فكان الجيش دائماً رهينة لطغمة حاكمة تستخدمه وقوداً لأوهامها، وفيما يبدو الطفل السوري أكثر انعتاقاً وتحرراً حتى وهو جثة هامدة، يبدو الجيش مغلول الأيدي والأقدام كمعتقلي غوانتانامو لا يتحرك إلا مدفوعاً في الاتجاه الذي يريده سجّانوه في سعيهم إلى رصيد إضافي من الأوهام. رحلة العذاب السورية إلى طوابير الاقتراع وصناديقه ستطول أكثر مما تصوّر الثوار، فالنظام لم يتردد في تكرار واحدة أخرى من المهازل التي يسمّيها «انتخابات»، فلا هو ولا الذين اقترعوا أو انتُخبوا وولجوا إلى مبنى «مجلس الشعب» يصدّقون أن ما جرى كان انتخابات. ففي ذلك اليوم كان هناك «شبيحة» يقتلون في شارع و «شبيحة» يرصدون في شارع آخر مَن جاء يقترع لأن مَن لم يأتِ يعتبر متمرداً على التعليمات ويصبح هدفاً للتنكيل. كان ذاك اقتراعاً لإدامة «الشبيحة» ونظامهم. رحلة المصريين إلى غدهم الطالع لم تكن سهلة ولم تخلُ من إراقة الدماء، فحتى «موقعة الجمل» على رغم هولها وقد نمّت عن غباء خالص لدى مرتكبيها، لا تُقارن بتدمير منهجي لأحياء كاملة في حمص وحماه وقد نمّ عن إجرام وحشي مطلق لدى مرتكبيه. وبوصول المصريين إلى صناديق الاقتراع، وبعض منهم لا يزال يهتف «يسقط حكم العسكر»، فإنهم سيتذكرون قريباً أن ما يسمونه «عُرساً ديموقراطياً» ما كان ليتم من دون ضمان الجيش وحمايته. كانوا أحراراً في الإفصاح عن عدم الثقة بعسكريين مكثوا طويلاً في الحكم ويصعب تصورهم منسحبين منه ببساطة وأريحية، بل كانوا واعين في مثابرتهم على إبقاء المجلس العسكري تحت ضغوط التشكيك بمناوراته للحفاظ على خيوط الحكم في يده. فالثورة فتحت أمام الشعب آفاقاً كانت مسدودة ولم يكن يعرفها، قوامها الحرية والاختيار، وكان عليه أن يتأهل لهذه الفرصة ويستوعب مسؤوليته في ممارسته لهذين الاستحقاقين. كذلك وضعت الثورة المؤسسة العسكرية أمام مراجعة كبرى لتحديد جديد معصرن لمهمتها: حماية الجمهورية والنظام الديموقراطي بموازاة حماية الحدود والأمن القومي والاستقرار. صحيح أن الخيار صعب في مصر لكنه من صنع الشعب ولم يفرض عليه لا بالقوة ولا بالتزوير، ثم أنه ينطوي على منطق هو عموماً نتاج مجتمع خارج من التعرّض طوال ستين عاماً لثقافة حكم لم يكن ممكناً ولا طبيعياً استئصالها خلال سنة انتقالية. لم يكن جميع مريدي النظام السابق مقودين مخدوعين أو مسيّرين مستلبين، بل كان بينهم الكثير من المقتنعين به والمتعايشين معه والذين يرون فيه أهون الشرور، فضلاً عن جمهرة المستفيدين وأصحاب المصالح و «النخبة الفاسدة». هناك من كانوا معه لأنه حظّر الأحزاب الدينية وكان حاجزاً منيعاً أمامها، وهناك من لم يكونوا معه لكنهم ضد وصول الإسلاميين إلى الحكم لمجرد أنهم إسلاميون. لم ترفع «ثورة 25 يناير» ولا في لحظة شعار الدولة الدينية، بل طالبت بالدولة المدنية، وبالحريات والديموقراطية. ولا يمكن الديني أو العسكري أن يكون مدنياً طالما أنه مسكونٌ بأجندته ولم يتمرّس في قبول الآخر واحترام الحريّات. لا تزال روح الثورة موجودة، وإذ تفرقت أطيافها فهذا لا يُعاب عليها بل كان طبيعياً ومتوقعاً، لكن الخطأ الذي ارتكبه الجميع كان في عدم اعترافهم بحقائق المجتمع كما تبيّنت أخيراً في نتائج الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية، بل الأخطر كان الذهاب إلى الانتخابات كما لو أنها تجرى في ميدان التحرير: فما ظهر جلياً من نسبة المشاركة في الاقتراع ومن توزّع الأصوات ومن ردود الفعل المستنكرة للنتائج أن المجتمع ليس جاهزاً للاتجاه مع «الإخوان المسلمين» إلى تغيير جذري، ولا للعودة إلى النظام السابق ولو معالَجاً. أما الظاهرة الأخرى في النتائج فهي أن المرشحين الثلاثة الذين يشكلون الوسط بأمزجته المختلفة جمعوا معاً نسبة أعلى مما ناله مرشحا المواجهة معاً، وفي ذلك دلالة واضحة إلى أن الشعب كان يفضل مرشحاً وسطياً أو توافقياً أقله للسنوات الأربع الأولى بعد الثورة، ومع أنه صَعّد الفكرة فإنه لم يتمكن من تصعيد مرشح واحد يجسّدها. فبين عمرو موسى (الوسطي المتمايز عن النظام السابق) وعبد المنعم أبو الفتوح (الوسطي المنشق عن «الإخوان») وحمدين صباحي (حلقة الوصل بين قيم الثورة وقيم النظام السابق) تبعثرت الأصوات الرافضة مبدئياً ما يمثله أحمد شفيق ومحمد مرسي، والمضطرة عملياً الآن لاختيار واحد من هذين الاثنين. لا يزال «الإخوان» يُلامون على عدم ترجيح التوافق الذي أعلنوا التزامه ثم انقلبوا عليه، كما يُلام ممثلو الثورة على عدم فرملة اندفاعهم إلى إضفاء نوع التجريم لمن صنفوهم «فلول النظام السابق» فوقعوا في إقصاء عشوائي غير مبرر ونسوا أن من شأن الثورة أن تعيد لمّ شمل الشعب. ولعل هذا الإقصاء - بمرجعيته الثورية – هو ما زيّن ل «الإخوان» الإسراع بقوننة «عزل الفلول» ولم يفطنوا إلى رد الفعل الذي زاد الاصطفاف وراء أحمد شفيق، الذي استفاد على أي حال من أخطاء خصومه جميعاً. إلى أين من هنا؟ لا بد أن الموقف السليم هو قبول نتيجة الانتخابات أياً تكن المشاعر إزاءها، لأنها خيار الشعب المصري وليست خيار شعب آخر اندسّ في طوابير الناخبين. والمهم إعطاء الصوت لمَن من الاثنين يستطيع أن يكون أقرب إلى الدولة المدنية وطموحات الوسط. وإذا انتصر هذا المعيار فإن الخيار التوافقي الواضح والحاسم سيكون متاحاً لكن... بعد أربع سنوات. يبقى مشروعاً أن يعرب المصريون عن الغضب والسخط والاستياء، فهذا يعبّر عن حيوية دفاعهم عن حقوقهم، لكن فلتبقَ حربهم الأهلية سياسية، وسياسية بحتة. ثمة شعب عربي آخر في سورية يبدو مضطراً لحمل السلاح والتوغل في حرب أهلية دامية للحصول على أبسط حقوقه: الحرية والكرامة والعدالة... قيمٌ ثلاث لا وجود لها في قاموس النظام السوري. * كاتب وصحافي لبناني