في كتابه «رحلة إلى الصين» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر) لا يتذكر الرسام العراقي رافع الناصري ماركو بولو. فرافع الشاب لم يذهب الى الصين عام 1959 بحثاً عن المغامرة، بل رغبة في التعلم. غير أن جملة من نوع: «ولو في الصين» كانت كافية لكي تشيع الرعب في قلوب عراقيي منتصف القرن العشرين، فيكون الذهاب الى الصين حينها نوعاً من ركوب الخطر. كانت الصين بعيدة ولم تعد طرق الحرير سالكة. قبل رافع لم يذهب فنان عراقي الى الصين. بعده لم يفعلها أحد كما أظن. كانت رحلته إذاً فريدة من نوعها في تاريخ الثقافة العراقية المعاصرة. وكان رافع حريصاً على أن لا يقول شيئاً عن تلك الرحلة طوال نصف قرن من الزمن، هي العمر الذي قضاه رساماً محترفاً. لديه ما يفعله فكان يكتفي بالابتسام كلما سألتُه عن يومياته الصينية. ما الذي فعله هناك؟ كان يرسم. كان يتعلم تقنيات الرسم الصيني. لكنّ تلك التقنيات هي في حقيقتها تتجاوز المادي إلى الروحي. فأصابع الصينيين تمتزج بخيال رائحة الحبر بالقدر الذي تمتزج فيه بصبغته. عالم تمتزج فيه الابخرة بالأصوات. الأشكال بأشباحها. وما من زمن بعينه. هناك يقع الخلود كما لو أنه حدث يومي. الرسم الصيني لا يُعنى بالوصف المباشر إلا بقدر ما تعنى الارواح بايقاعاتها الخفية. الرغبة في التهام العالم، في الاستيلاء عليه أولاً ومن ثم تحويله إلى مادة للسؤال، لا يمكن الاستغناء عنها. الصينيون يتعلمون حين الرسم أيضاً. طقس روحي عاد الناصري من الصين رساماً تأملياً. ستفصح التقنية في ما بعد عن بعض من عاداته الفكرية. كانت صلته بالمواد التي يستعملها (أحبار طباعية، الواح معدنية، أحماض، اكريلك، ورق، كانفاس) قد دفعته إلى النظر إلى السلوك الفني باعتباره ممارسة لعمل نفيس. من هنا جاء حرصه على نظافة المكان الذي يعمل فيه. حرصه على اناقة مظهره وهو يعمل. كان الرسم باعتباره طقساً روحياً يجعله في منأى من الخضوع للانفعال الآني المباشر. على رغم أن الكثير من ضرباته تبدو كما لو أنها وليدة لحظتها. تأمل أعماله في سياقها التاريخي ينفي أن يكون للصدفة أي دور في بناء العمل الفني. هناك دربة مؤطرة بتمرين قاس يزن تأثيره بميزان الحكمة. وبسبب عزوفه عن الوصف، لم يجد الناصري أي معنى في استعادة مواد التزويق التراثي. يكفيه انه تأمل تلك المواد، لمسها، وزنها، اختبر كثافتها ثم اعادها إلى مكانها. لم يضمها إلى خزانته الروحية باعتبارها لقى شخصية. نظر إليها باعتبارها وقائع بصرية تنتمي إلى زمن بعيد. غير ان المعنى وهو ما استخرجه الرسام التجريدي من تلك اللقى امتزج بكل ضربة من ضرباته. قاده ذلك المعنى إلى أن يشيد بغداده، مدينته الشخصية من الادعية لا من الآجر. وكان ذلك دأبه مع كل الامكنة التي مر بها وسعى الى اكسابها نوعاً من الشفافية، هو التجسيد الاسمى لفكرة مثالية عن مكان أزلي لا يزال يتشكل. وهكذا كان الصنيع الفني يستلهم حيوية الجوهر التي يعود إليها المكان كلما ضاقت به ومن حوله صورته الخارجية. ألا تقيم الزهرة في موجزها: العطر؟ بالنسبة الى رافع فقد كان مفهوم الرسام الشرقي قد نضج لديه في وقت مبكر. غير أن حكاية ذلك الرسام ظلت مقيمة تحت الجلد. وحين بدأ بكتابة يوميات رحلته الصينية قبل سنوات أدركتُ ان الفتى الذي تركه رافع نائماً طوال خمسين سنة قد استيقظ أخيراً. هل كانت رسوم الناصري هي مرآة لأحلام ذلك الفتى؟ مَن يُعين الآخر على التذكر؟ الرسام الذي يلتفت إلى الوراء مخترقاً آلاف اللوحات أم الشاب الذي لا يزال يتعلم ارتقاء الجبل بحثاً عن الروح النقية حاملاً عشبة لا يراها أحد سواه. «كنتُ هناك» كعادته، كتب رافع بخفة، برشاقة، بحنو إنساني بليغ. «كنتُ هناك» لم يقلها بصوت عال، بل قالتها خطواته التي تعلمت المشي بطريقة مختلفة. في كل واقعة من السرد الممتع هناك دلالة تشير إلى ما تعلمه الفتى هناك. ولأن الناصري يدرك انه يقدم درساً فريداً من نوعه، فقد حرص على أن يقتبس من الماضي اللحظات التي جعلته يقوى على الخروج من ذاته ليكون الآخر الذي كان يحلم أن يكونه. الآخر الذي يحمل اسمه. وكان ذلك درساً أخلاقياً كبيراً بقدر ما كان درساً فنياً ضرورياً. وكما يبدو لي فإن الناصري وهو المعلم الذي درس على يديه عشرات الفنانين العراقيين فن الحفر الطباعي قد وجد في كتابة رحلته الصينية مناسبة للتأكيد على أهمية التربية الفنية. ولكن إذا كان الأمر كذلك فلمَ انتظر رافع الناصري كل هذا الزمن من أجل أن يكتب درسه الصيني؟ لم أسمعه يتكلم الصينية، غير أني رأيته ذات مرة وهو يكتب اسمه بالصينية. ربما تأخر الناصري لكي ينسى ما تعلمه، بما يكفي لحض ذلك الفتى النائم على الاستيقاظ. تنتهي الحكمة حين تبدأ الحكاية. في مواجهة تأثيرات الفن الغربي كان رافع الناصري فناناً شرقياً. لا على مستوى صناعة السطح، حسب بل وايضاً وهذا هو الأهم على مستوى ما ينطوي عليه العمل الفني من إشراق روحي. دائماً هناك أمل في مكان ما. هناك رغبة عميقة في القول بأن الحياة لا تزال ممكنة وجميلة. هناك رمزية عابثة لا علاقة لها بالرموز أو الاشارات تضع الامور كلها على ميزان عادل. لقد انجز الناصري فناً صفته الاساسية الانصاف. كان المطلق لديه يقيم في أصغر الأشياء. علمته الطبيعة أن يكون وفيا لما يتلاشى. ربما لأنه اكتشف جذوره العربية في الصين، هناك حيث لم يترك العرب وراءهم سوى احساس عميق بالسلام. كان الفتى ينام إذاً وعيناه غاصتان بالأحلام. هذا الكتاب وهو ليس صناعة من أجل استعادة مشاهد بصرية فالتة، بل هو محاولة لتجسير الفجوة بين حياتين متمردتين، يشف عن لحظة خرافية ترتطم فيها نظرتان خلاقتان، لتنبعث من ذلك الارتطام رؤيا لكون يتأمل ذاته في مرآة، يمكنها أن تعد بما تراه، أكثر من أن تثق بالكنز البصري الذي صار جزءاً من مقنياتها. يعدنا الناصري هنا بحياة ثانية. حياة نتأملها مثلما تتأملنا. نلتهمها وتلتهمنا. غير أن ما يُمحى منا ومنها يبقى محاطاً بالبرق، باعتذار اليد التي تكتظ أعصابها بما محته. ولأننا لا ننتظر من الناصري اعترافاً، ذلك لأن رسومه كانت غاصة بالاعترافات، فإن حياته شاباً في الصين كانت مثالية في ميلها الى المعرفة. وكان الإنسان هو محور تلك المحاولة. أذكر انه عاد بصورة أمه. تلك اللوحة التي نفذها بتقنية الحفر على الخشب كان يعلقها على أحد جدران بيته في بغداد. عاد الناصري الآن (في كتابه) صينياً، بعد أن كان في الصين عراقياً. وما بين الأثنين عاش الرسام حياة نموذجية، امتزجت فيها سعادة المتمردين بشقاء الكهنة. كان فنه نبوءة عصر لا يزال في إمكانه أن يكون متفائلاً. كان فن رافع الناصري مثل حياته الشخصية مثالياً في انحيازه إلى الحق، وكان الجمال دائماً إلى جانبه. بعد قراءة هذا الكتاب لا يحتاج المرء إلى سماع جملة من نوع «كنتُ هناك».بطريقة أو بأخرى نكون جميعاً هناك بالإسلوب الذي يجعل من الاشراق الروحي بداهة عيش.