في ظل الأزمة الاقتصادية والمالية المتنامية والمتفاقمة في فضاءات الدول المتحضرة والمتقدمة، لا بد من اللجوء إلى الديموقراطية والانتخابات في مجتمعات من تقاليدها حل مشكلاتها ومعضلاتها باللجوء إلى ممارسة السياسة وإشراك كل قطاعات المجتمع والدولة في هذا السلوك الحضاري، وإلا فإن العنف والفوضى قد يطيحان كل ما جرى ويجري التوافق في شأنه، من السياسة إلى الاقتصاد، إلى الاجتماع، إلى الثقافة، وكل ما يخص بناء الاجتماع الانساني، مما ابتكرته السياسة وأبدعته في عالمنا الحديث. من هنا، يمكن فهم اتجاه اليونان إلى إجراء انتخابات جديدة، عقب فشل الاحزاب الرئيسة في تأليف حكومة ائتلافية، بعدما أخفقت كل من الأحزاب المؤيدة للتقشف والمعارضة له في الحصول على مقاعد نيابية كافية للحكم. ومعلوم أن أثينا باتت واقعة تحت نصال تهديدات دائنيها، بدءاً من الاتحاد الأوروبي وألمانيا، بأنه في حال تخلفها عن التزاماتها في إطار القروض الممنوحة بموجب خطة الانقاذ، فإنهم سوف يتوقفون عن دفع الأموال وسينظرون في احتمال خروجها من منطقة اليورو. لذلك أجرى الرئيس اليوناني كارولوس بابولياس وقادة الأحزاب السياسية في البلاد محادثات حول تأليف حكومة لتجنب انتخابات جديدة يمكن أن تؤدي إلى خروج البلاد من منطقة اليورو، وحتى إفلاسها، نظراً إلى إخفاقها في تأليف حكومة ائتلافية وإلاّ فتنظيم انتخابات جديدة في حزيران (يونيو) المقبل. وأظهرت آخر استطلاعات الرأي أن أكثر اليونانيين يريدون حلاً. وذكر معهد «كابا»، في استطلاع نشرته صحيفة «تو فيما»، إن 72 في المئة من اليونانيين يعتبرون أن على الأحزاب التعاون «بأي ثمن» لتبقى اليونان في منطقة اليورو، و78 في المئة يريدون حكومة «تقوم بكل ما في وسعها» لتحقيق هذه الغاية. وفيما يثير المأزق السياسي في اليونان المخاوف من خروج البلاد من الاتحاد النقدي، تواجه اسبانيا صعوبة في اقناع شركائها بقدرتها على الوفاء بالتزاماتها المالية. ويتظاهر عشرات الألوف من الإسبان في الساحات العامة إحياء لذكرى «15 مايو» بعد عام على انطلاق حراكهم «الربيعي» الاحتجاجي ضد الأزمة الاقتصادية. ويؤكد مسؤولو «حركة 15 مايو» أن حركتهم ستستمر في التظاهر، لأن الحكومة لم تعتمد إجراءات سياسية واقتصادية مناسبة لإنقاذ البلاد، بل يتهمونها بالخضوع لتعليمات البنك المركزي الأوروبي والمانيا والمؤسسات المالية، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. وتمر اسبانيا في أسوأ وضع سياسي واقتصادي، فقد تجاوزت البطالة خمسة ملايين و600 ألف، وأقدمت الحكومة على اقتطاع 40 بليون يورو من موازنة العام الجاري في إطار سياسة التقشف وأوقفت كل برامج التوظيف، ومما يزيد من غضب الشارع أنها وعلى الطريقة الأميركية، توظف أموالاً لإنقاذ بعض المصارف، كما وقع مع مصرف «بانكيا» الذي أقدمت على تأميمه أخيراً. خطر على الديموقراطية أما الوضع الإيطالي فيذهب في اتجاه عنفي، فقد جرت الاستعانة بالجيش، على خلفية استهداف مجموعة شركات «فينميكانيكا» الدفاعية ومصلحة الضرائب بسلسلة من الهجمات، ما يزيد المخاوف من اتساع العنف السياسي. وعلى رغم أن الاحتجاجات على برنامج التقشف الذي تطبقه ايطاليا غلب عليها الطابع السلمي، فإن جماعة فوضوية معروفة أعلنت مسؤوليتها عن هجوم أصيب خلاله مسؤول تنفيذي في «فينميكانيكا» بالرصاص في ساقه. وقد أظهرت بيانات المصرف المركزي الإيطالي قبل ايام، أن الدين العام سجل في آذار (مارس) مستوى قياسياً متخطياً 1946 بليون يورو (نحو 2530 بليون دولار)، مقارنة ب 1934.9 بليون في كانون الثاني (يناير). ويبلغ حجم الدين العام الإيطالي نحو 120 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، ما يجعله في قلب أزمة الديون في منطقة اليورو. وتعتبر الأرقام الجديدة أخباراً سيئة لرئيس الحكومة ماريو مونتي الذي سعت حكومته في كانون الأول (ديسمبر) الماضي إلى وضع إيطاليا على مسار تصحيح الموازنة في العام المقبل، عبر اتباع حزمة تقشّف في الإنفاق وزيادة الضرائب. في ظل هذه الأجواء الضاغطة، تراجع اليورو بقوة على نطاق واسع، بخاصة بعدما ألقت الانتخابات في اليونان وفرنسا بظلال من الشك على تعهد ساسة تنفيذ برامج تقشف، تهدف إلى حل أزمة ديون منطقة اليورو. وأشار تجار إلى أن الخسائر التي أدت إلى تسجيل العملة الموحدة أدنى مستوى في ثلاثة أشهر أمام الدولار، وفي ثلاث سنوات ونصف السنة أمام الجنيه الإسترليني، وفي شهرين ونصف الشهر أمام الين، قد تستمر خلال الأيام المقبلة، وطالما استمرت الأزمة في نشر مفاعيلها في الفضاء الأوروبي. خصوصية يونانية وفي حين أثار إخفاق حزبين رئيسين في اليونان دعما حزمة الإنقاذ الدولية تساؤلات في شأن مستقبل البرنامج، وربما عضوية اليونان في اليورو، أطاح الرئيس الفرنسي المنتخب فرانسوا هولاند الذي يدعم إطاراً زمنياً أطول للتخلص من العجز، الرئيسَ الفرنسي الحالي نيكولا ساركوزي، ما قد يؤدي إلى مقاومة خطط التقشف التي تقودها ألمانيا في أرجاء منطقة اليورو. وكان سعر الذهب قد تراجع بعدما أبرزت الانتخابات في فرنسا واليونان قوة المشاعر المناهضة للتقشف، في حين رفض الناخبون اليونانيون خصوصاً سياسات التقشف في مقابل المساعدات التي حمت البلاد من الإفلاس والخروج من العملة الأوروبية الموحدة، ما وجّه صفعة قوية الى الإجماع السياسي الهش في منطقة اليورو حول مشكلة الديون. على كل حال، فإذا كان من الصحيح أن معالجة المشكلات الناشئة عن الديموقراطية، يكون بمزيد من الديموقراطية وآليات الرقابة، فإن الديموقراطية أو صناديق اقتراعها ليست كافية وحدها للمساهمة في إيجاد حلول كانت لتبدو مستعصية لمشكلات أكثر استعصاءً على الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية. إن إرادات الناس إلى جانب التقاليد المعيارية للسياسة كسياسة، وللسياسات المجتمعية، ونجاحاتها في إدارة الدولة، تتيح المساهمة الفعالة في فرض أنماط من سياسات لا معيارية، جديدة، كفيلة إيجاد المخارج الضرورية من حال الأزمة، وبما يفتح الطريق أمام مداخل ضرورية إلى حال أخرى، عمادها قيادة السياسة للإجتماع الإنساني من دون الإغراق أو الغرق في ما يمكن تسميته «استطياب الأزمة»، كونها قد تؤكد خصخصة الأرباح لمصلحة القلة المتحكمة والمهيمنة، وتعميم الخسائر وتمركزها في صفوف الأكثريات الشعبية الفقيرة. * كاتب فلسطيني