بعيداً من المنمطات، وفي منأى عن الاسترسال في التنظير، يجب الاعتراف بأننا في المرحلة المفصلية من ربيع العالم العربي، الذي استهلَّ في لبنان عام 2005، وها نحن اليوم في عمقه في مصر حيث ترتدي الانتخابات الرئاسية أبهى أشكالها الديموقراطية، وقد استُهلت بشائر هذا البهاء في مناظرةٍ إعلامية راقية بين مرشَّحين لموقع رئيس الجمهورية، وبعد انتخابات في الجزائر كانت المرأة نجم برلمانها، مروراً بتونس التي أثبتت بخضرة نضالها رقيّ سلمية ثورتها، وكم يعنيني ربيع سورية حين يتوقف فيها هدر دماء الأحرار. بعيداً من كل المنمطات ثمة ما يوجب الاعتراف بأنَّ صيانة العيش المشترك المسيحي - الإسلامي، هو تحدٍّ من الأولوية بمكان مقاربته بجرأة وجديَّة. فالعيش المشترك المسيحي - الإسلامي، وفي ظلّ الربيع العربي، يواجه هجوماً من أربعة محاور يتمثَّل أولها في الوهم الأقلوي، وثانيها في الانفتاخ الأكثريّ، وثالثها في ترهُّل الليبراليين، ورابعها في هشاشة العدالة الاقتصادية – الاجتماعية. 1 - الأقلوية - الوهم: الأقلوية ذهنية قبل أن تكون واقعاً ديموغرافيّاً أو دينوغرافيّاً. ومقاومة الأقلوية تكون بتطوير مفهوم العروبة الحرَّة وتمتين مفهوم المواطنة. والأقلوية منهج استدراج حمايات داخلية وخارجية ينعكس استتباعاً على رؤية حلف أقليات تفيد منه «يهوديَّة إسرائيل» ليس إلّا، وهنا بيت القصيد. الأقلوية وهم يجب أن يفكك بنيته المؤمنون بالعيش المشترك. 2 - الانتفاخ الأكثري: لقد قمعت الديكتاتوريات التي تسيَّدت العالم العربي على مدى أربعين عاماً، المتدينين بمعنى إقصائهم عن العمل السياسيّ أسوة بغيرهم، بل هي أقصت كل من لم يُصنِّف ذاته في عديد المصفقين لها. وكان لهؤلاء تيَّارٌ عريض يتحيَّن فرصة صحوة حصل عليها في صناديق اقتراع ٍ ديموقراطية، بدأت في فلسطين ومرَّت في الجزائر وتونس ومصر وليبيا، الأهم من الصحوة وعيها أنَّ تحوُّلُها انتفاخاً أكثريّاً انتحار، وحينها تكون حليفاً موضوعيّاً للوهم الأقلوي. الانتفاخ الأكثري يجب أن يفكك بنيته المؤمنون بالعيش المشترك. 3 - ترهُّل الليبراليين: من السهل التسويق أن الخطر على الربيع العربي قائمٌ فقط في «الوهم الأقلوي»، و «الانتفاخ الأكثري»، مع تجاهل أنَّ تعميم الفوبيا من «الإسلام السياسي» وشدّ العصبية المسيحية انطلاقاً من هذا التعميم، هما نتاج حتميّ لترهُّل الأنتلجنسيا الليبرالية في حماية مكتسبات العيش المشترك المسيحي - الإسلامي العربي على مرِّ التاريخ، ولم لا الحديث عن مكتسبات التراث الإبراهيمي، قبل وفود آفة الصهيونية إلى اليهودية، وهنا يجب التلفت إلى جديَّة تنامي اليسار اليهودي في العالم بما يتفوَّق على تنامي اليمين داخل إسرائيل، وإشارتي إلى حركة «جي - ستريت» في الولاياتالمتحدة الأميركية، وحركة «جي - كول» في أوروبا. والحركتان باتتا في موقع نزع الشرعية في شكلٍ أو في آخر عن سياسة إسرائيل العدوانية. السؤال المحوري في كل ما سبق يتلخص في أين هم الليبراليون العرب مسيحيين ومسلمين ويهوداً؟ وقد يكون لدى شباب ثورات الربيع العربي إجابة على ذلك، إن صمموا هم على إعادة بناء هذا التيَّار. 4 - هشاشة العدالة الاقتصادية - الاجتماعية: أولويتان جمعتا أحرار العرب. الحريَّة اجتماعياً وسياسياً مع ما تحمله من مقومات للديموقراطية وحقوق الإنسان. والرغيف اقتصاديّاً وتنمويّاً، مع ما يختزنه الرغيف من رمزية لنوعية الحياة الكريمة، لا تسوُّلها. من هنا، فإنَّ هشاشة العدالة الاقتصادية - الاجتماعية هي مدعاة تطرُّف وتمزيق إن لم نحتكم فيها إلى سياساتٍ رؤيوية. وبالتالي فإن العيش المشترك مصانا هو أحد نتائج هذه السياسات. ما سبق مقاربة في هجوم من محاور أربعة يتعرَّض لها العيش المشترك في العالم العربي ودرء الهجوم يبدأ بتزخيم الحوار مع الناس وبينهم، ليس الحوار الأكاديمي وحسب، بل ذاك الآتي من استراتيجيات تواصل جريئة وحكيمة واستراتيجيات التواصل ليست قصراً في الميديا والإنترنت بل في نسق تربوي مدني - دينيّ، يبدأ بالمرجعيات الدينية الكبرى، وأعني خصوصاً الأزهر والنجف والمسيحيين المشرقيين على اختلاف توجهاتهم، وللأنتلجنسيا دورٌ آملُ بألّا تنأى فيه بنفسها عن ممارسته إمَّا لترقُّب، أو لخفرٍ، أو لشلل مدمر. * كاتب لبناني