يتقدم ملايين المصريين بعد غدٍ الأربعاء لاختيار الرئيس المقبل للبلاد. حرب الإشاعات والفتاوى والحملات المحمومة تعبير عن اصطفافات وخلط أوراق تلقي مزيداً من الضوء على هوى المرشحين واتجاهات الناخبين. كما تضاعف القلق والحيرة في أوساط واسعة من الناخبين الذين لم يحددوا خياراتهم. وقد تسكنهم هذه الحيرة حتى اللحظة الأخيرة. لكن هذه الانتخابات تظل قاصرة عن تحديد خيارات فكرية بعينها، كما هي حال نظيراتها في ديموقراطيات غربية عريقة، ستؤشر إلى خيارات اجتماعية. بمعنى أن قوى اجتماعية بعينها تقف خلف هذا المرشح أو ذاك. وإن بدا أن «الجماعة» تتباهى بأن مرشحها يحمل برنامجاً متكاملاً للحكم. يشكل هذا الاستحقاق حدثاً مهماً لكنه قد لا يكون مفصلياً في تحديد مسار تداعيات الثورة. يصعب التنبوء بالرئيس المقبل من بين المرشحين، وإن بدا أن ثمة وجوهاً لها أرجحية في خوض الدورة الثانية. الفريق أحمد شفيق مثلاً بات بوضوح مرشح «الفلول»، وإن أغاظه هذا التوصيف. لم تقنع مواقفه السابقة الجمهور بأنه كان ضد الرئيس المخلوع حسني مبارك وإدارته، وإن سجل اعتراضات. هو جزء من التركيبة القديمة. يكفي أنه تولى رئاسة الحكومة يوم «موقعة» الجمل وحافظ في وزارته على كثير من وجوه النظام الراحل. قد لا يكون وراء الموقعة. بل ربما فوجئ بها كما الآخرون. لكنه يتحمل نوعاً من المسؤولية. ألم يكن على رأس السطة التنفيذية التي يجب أن تأتمر بها كل الأجهزة والمؤسسات الحكومية؟ بدّل في الأيام الأخيرة خطابه. وضوحه في تحديد موقفه قد يستميل بعض الوجوه العسكرية التي تنأى بنفسها علناً عن تأييد أي مرشح. وتؤكد التزامها مسافة متساوية من جميع المرشحين. وهو وعد بإقامة «علاقات سلسة» مع الجيش كونه أحد أبناء المؤسسة. كما تشير الاستطلاعات إلى حملة تأييد واسعة له في الأرياف حيث هناك قواعد ثابتة للنظام السابق، أو في أحسن الأحوال شرائح ليست منخرطة في الحراك انخراط أهل المدن الكبرى. السيد عمرو موسى يحظى بتأييد شريحة واسعة من الأقباط وبعض القوى الليبرالية. ولم يتوان عن مغازلة المؤسسة العسكرية متعهداً النظر في بعض مطالبها وهواجسها. لكنه يتقاسم الناخبين في مواقع كثيرة مع «العسكري» أحمد شفيق. مثلما بدأ حمدين صباحي ينافسه في أوساط شبابية ويسارية وليبرالية فضلاً عن القومية. ويقدم وزير الخارجية السابق نفسه مرشحاً علمانياً لا يخفي تحذيره من أن تتحول مصر الى «حقل تجارب» للاسلاميين. أما «الإخوان» فقد هدأت «ثورتهم» على عبد المنعم أبو الفتوح وإن لم يكف عنه «رفيقه» السابق المهندس خيرت الشاطر. لعلهم يتحسبون لاحتمال فشل مرشحهم محمد مرسي في الانتقال إلى الدورة الثانية من الانتخابات. ولكن حتى أبو الفتوح الذي بدا معتدلاً في الأيام الأولى للحملة جاذباً الكثير من القوى الوسطية، بدأ يخسر بعضها لمصلحة صباحي. ذهب بعيداً في خطابه مع السلفيين وبعض القوى الاسلامية المتشددة. لم تعد له صورة المعتدل التي كانت في البدايات. بالغ في تلوين خطابه بتلون الجمهور المتلقي. وثمة تساؤل عن قدرته على التوفيق بين مناصرين متشددين له وآخرين ينتمون إلى «شباب» الثورة المنادين بمدنية الدولة وبالعلمانية. ولكن يظل «الإخوان» هم الأقدر على إدارة المعارك الانتخابية. إنهم يملكون كل الأدوات اللازمة والماكينة القادرة على التجييش والحشد في طول البلاد وعرضها. لكنهم يدركون أن المشكلة لا تنحصر بمرشحهم الذي لا يتمتع بالكاريزما المطلوبة قياساً على منافسيه، ولا يتمتع تالياً بشعبية مضمونة. مشكلتهم في التجربة السياسية التي خاضوها منذ اندلاع الثورة وحتى تشكيل اللجنة التأسيسية التي سيوكل إليها وضع دستور جديد. باتوا أقل إيماناً بقدرتهم على إقناع الجمهور كما حصل عشية الانتخابات البرلمانية. لم يعد ممكناً سوق الناس جماعاتٍ إلى الصناديق. صار الناخبون والعامة منهم حتى ينظرون إليهم بعين الشك وعدم الرضى. تراجعت «الجماعة» عن كثير من مواقفها. وتقلبت كثيراً في مواقفها. والأهم من ذلك كان خطأها الكبير في استعجالها سياسة التمكين والسيطرة على كل المؤسسات من دون مراعاة حساسيات تكاد ترقى إلى مستوى المسلمات لدى العامة. فهل يعقل تجاهل قلق الكنيسة القبطية؟ وهل يمكن الذهاب بعيداً في تحدي سلطة الأزهر الدينية وحتى الوطنية والمطالبة بتغيير قانون الأزهر... بعد محاولات التدخل في أعمال القضاء؟ وهل يمكن مواصلة تجربة الكر والفر في الصراع مع العسكر من دون مراعاة موقع الجيش في أوساط معظم شرائح المجتمع المصري؟ وكانت إطاحة اللجنة الدستورية التي شكلها «الإخوان» بالتفاهم مع السلفيين خير دليل على أن «الجماعة» لم تعد قادرة كما كانت عشية انتخابات مجلس الشعب على تجييش الناس خلفها من دون أن يسألوا أو يتساءلوا. كما لم يعد بإمكانها إخفاء حدة الصراع الدائر بينها وبين السلفيين حيال المرشحين، وحيال قضايا أخرى كثيرة. اما المأزق الدستوري فكان وسيظل الملف الأكثر سخونة في مصر. فالرئيس المقبل لا يعرف مدى صلاحياته وحدود سلطاته. هذا ما كان يجب ترتيبه قبل الانتخابات. والإعلان الدستوري الذي أصدره المجلس العسكري نهاية آذار (مارس) 2011 لم يحسم نقاطاً عدة تتعلق بصلاحيات الرئيس وصلاحيات الحكومة. كان من الأفضل بالتأكيد أن يختار المصريون رئيسهم الجديد وقد عرفوا ما له وما عليه في نص دستوري واضح. ويدرك «الإخوان» هنا أنهم ارتكبوا خطأ فادحاً عندما تفاهموا العام الماضي مع المجلس العسكري على إجراء الانتخابات الرئاسية قبل إقرار الدستور الجديد... وارتكبوا أخيراً خطأ ثانياً في استعجالهم تأليف الجمعية الدستورية التي أطاحها القضاء بعدما تكاتفت قوى سياسية ودينية على رأسها الأزهر والكنيسة في ضرب صدقيتها. وإذا لم تنجح الاتصالات في إعادة تأليف جمعية يرضى عنها معظم القوى، قد يلجأ المجلس العسكري إلى «إعلان دستوري مكمل»، وإن نفى نيته ذلك. ومثل هذه الخطوة التي تتعارض الآراء القانونية في شأنها سيعيد فتح باب المعركة على الدستور المقبل. وسيكون هذا الملف الأكثر سخونة بين يدي الرئيس المنتخب الذي سيكون له بالتأكيد دور مهم في تحديد صلاحيات المؤسسات الدستورية، الاشتراعية والتنفيذية والقضائية، فضلاً عن مستقبل المؤسسة العسكرية ودورها وموقعها. بالطبع لن يكون تسليم الجيش السلطة إلى الرئيس عملية تلقائية بسيطة. وهذا ملف ساخن آخر يتصل اتصالاً وثيقاً بملف الدستور. لن يهدأ قلق المؤسسة العسكرية الذي سيظل ينعكس عدم استقرار في العلاقات الملتبسة بين السلطات، قبل إبرام صفقة سياسية أو حل توافقي مع كل القوى. ولا حاجة إلى التنبوء بمضمون هذا الحل. الجيش يريد ضمان خروج آمن، أي تسليم السلطات إلى أصحابها بعد أن تتوافر له حصانة أكيدة من أي مساءلات أو محاكمات وملاحقات مستقبلية. ويريد الحفاظ على دوره الاقتصادي الذي شكل طوال عقود رافعة أساسية لترسيخ موقعه في الخريطة السياسية والاقتصادية للبلاد، ووفر اطمئناناً للمنتسبين والمحالين على المعاش. وانطلاقاً من ذلك يريد الجيش أن يضمن حداً معيناً لاستقلال موازنته عن الموازنة العامة للدولة. أو على الأقل أن تظل موازنته بعيداً من النقاش العام. يريد أيضاً اعترافاً صريحاً بمكانته ودوره في تحديد هوية البلاد والقرارات المصيرية. ويريد أيضاً وأيضاً توضيح علاقة وزير الدفاع بالرئيس المقبل للجمهورية، ولمن تكون القيادة العليا للجيوش. أبعد من ذلك، أظهر الجيش في ضوء الصراع الذي شهدته مصر منذ اندلاع الثورة، أن ما يشغله هو بقاء مصر دولة مدنية أياً كان الثمن. صحيح أن جل قادته لا يزال يفكر بمنطق النظام البائد، لكنه أثبت في الشهور الماضية أنه لاعب لا يمكن تجاهل وزنه في الساحة السياسية. أخطأ وارتبك. تصلب وتراجع. خاصم وهادن. توافق مع الإسلاميين وأبرم صفقات. لكنه لم يعقد معهم حلفاً استراتيجياً. واجه شباب الميادين والساحات، لكنه كان ولا يزال يدرك أنهم في النهاية هم ضمانه وهو ضمانهم للحفاظ على مدنية الدولة وهويتها. ويعرف أنهم لا يمكن أن يقفوا علناً إلى جانبه في مواجهة القوى الأخرى التي تهدد هوية الدولة لئلا يبدوا كمن يخون الثورة ومبادئها. انطلاقاً من هذه الحقائق والمعطيات لا يمكن المطالبة ببساطة بعودة الجيش إلى ثكنه والإنصراف إلى دوره الأمني والعسكري المعروف. مثلما لا يمكن تجييش الميادين من أجل مواجهات غير محسوبة لإرغام العسكر على تسليم السلطة من دون أي ضمانات. الذين خرجوا قبل أسابيع إلى محيط وزارة الدفاع منددين بالمجلس العسكري ومطالبين برحيله كان عليهم أن يدركوا أن مثل هذا التحرك لا يفضي إلى النتائج المرجوة بقدر ما يدفع إلى صدامات وفوضى. لا حل سوى الحل السياسي التوافقي. إقامة العسكر على قلق دائم تعني مثلما أشّرت وتؤشّر الأحداث التي عاشتها وتعيشها مصر أن باقي المؤسسات الدستورية لن تغادر هي الأخرى دائرة القلق والترقب وعدم الاستقرار. لذلك يمكن القول ان معركة اختيار الرئيس هي معركة الجيش بامتياز. ولا مساومة فيها ولا مهادنة ولا صفقات... حتى وان وقع المحظور الذي يخشاه الجميع ويعرفونه، خصوصاً أولئك الذين يريدون الاستئثار بكل شيء.