حتى وإن كان الكاتب الارلندي المسرحي جون ملنغتون سينج متحدراً من أسرة بروتستانتية، فإن من المعروف ان عواطفه كانت دائماً الى جانب نضال الوطنيين الارلنديين ضد الهيمنة البريطانية على بلادهم. ومع هذا، حين كان هذا الكاتب يوجه بعض سهام نقده الى بعض سمات الحياة الاجتماعية للارلنديين، كان هؤلاء سرعان ما ينتفضون متظاهرين غاضبين ليذكّروا سينج بأنه - أصلاً - ليس منهم، ولا يحق له بالتالي أن يوجّه أي نقد اليهم. ذلك أن العامة، عادة، لا يحبون أن ينتقدهم أحد، فكيف إذا كان في امكانهم ان يحسبوا هذا ال «أحد» في صفوف «الآخرين»، إذ إن من ضمن سمات المزاج الشعبي البسيط، الاعتقاد الدائم ب «اننا على حق» والمخطئ هو «الآخر دائماً». ولعل خير مثال على هذا، من ضمن حياة سينج وعمله، المصير المباشر الذي كان من نصيب التقديم الأول لمسرحيته الأشهر «فتى العالم الغربي اللعوب»، إذ ان الجمهور ما إن جوبه بالعرض الأول لهذه المسرحية في أحد أيام شهر كانون الثاني (يناير) 1907، على خشبة «آبي ثياتر» في دبلن، حتى انتفض في أحداث شغب غاضبة، مطالباً بوقف عرض المسرحية. وشيء مثل هذا كان يحدث لاحقاً في كل مرة تعرض المسرحية، حتى في الولاياتالمتحدة الأميركية، إذ هناك أيضاً كان العامة الارلنديون المنتمون الى الحركة الوطنية، ينتفضون شاعرين بالاهانة راجمين الكاتب. والغريب ان سينج تحمّل هذا كله، خائب المسعى من دون أن يتأثر، صحياً، كثيراً، على رغم انه في ذلك الحين كان يعيش أعوامه الأخيرة. فسينج سيموت بعد ذلك بعامين ونيّف، ولن يكون لديه من الوقت ما يكفي لإنتاج أكثر من مسرحية أخيرة واحدة، بعد «فتى العالم الغربي اللعوب»، وهي «ديردري فتاة الاحزان» التي لن يمكّنه القدر من تصحيحها بعدما أنجز كتابتها. فما الذي كان في مسرحية «فتى العالم الغربي اللعوب»، حتى تثير ثائرة عامة ارلندا الوطنيين الى هذا الحد؟ في الحقيقة لم يكن فيها الكثير مما كان من شأنه، حقاً، أن يغضبهم. كل ما في الأمر أن المسرحية «جرؤت» على انتقاد بعض السمات الأخلاقية للإرلنديين، في الوقت نفسه الذي أعلنت نفسها جزءاً منهم ومن حياتهم. بالنسبة الى سينج، كان يعتبر انه ينتقد من الداخل، وأنه انما يحاول الاصلاح. أما «هم» فإنهم نظروا الى الأمر نظرة أخرى، وعلى هذا انتمى رد الفعل الغوغائي، تجاه موقف سينج الناقد بمودة، الى عالم سوء التفاهم الذي لطالما كان من نصيب كل عمل أو خطاب من هذا النوع. ومع هذا، فإن هذه المسرحية ستحبّ كثيراً وتعتبر في كل مكان من علامات الكتابة المسرحية في القرن العشرين، وهذا ما جعلها تعيش طويلاً، وتقدم طويلاً، وتقتبس طويلاً. والحال أن اقتباس المسرحية المتكرر وفي بلدان ولغات عدة، عمّم الانتقاد الذي تحمله وجعل معناها ومبناها يتجاوزان إرلنديّتها الضيقة. ونعرف طبعاً ان المسرحية «مصّرت» في مصر و «لبننت» في لبنان في الستينات من القرن الماضي، وتبدت فاعلة في الحالين. تحدثنا مسرحية «فتى العالم الغربي اللعوب» (التي تواكب كل ترجمة عربية لها، حيرة ازاء كلمة بلايبوي التي يحملها العنوان الأصلي «بلايبوي العالم الغربي» طالما أن ليس لهذه الكلمة معادل في العربية)، عن كريستي ماهون، المزارع الخجول الأفّاق بعض الشيء الذي يحط فجأة في نزل ريفي في بلدة مايو وهو مضطرب، وإذ يتحلق من حوله الحضور، وحسناء النزل بيجين، سائلينه عما به إذ احسوا غرابة أطواره، ينتهي به الأمر الى أن يسرّ أمامهم بأنه قبل أيام، حين كان يتشاجر مع أبيه، في بلدته، انتهى به الأمر الى أن يخبط الأب بضربة معول على رأسه فأرداه. وهنا اذ كان الفتى يعتقد بأن اعترافه سيجر الويلات عليه، يفاجأ بما هو عكس ذلك تماماً: يهلل له الحضور معتبرينه بطلاً وتتبدل على الفور نظرتهم الأولى اليه. وهكذا يتحول موقعه من غريب خجول، الى بطل لعوب ويصبح موضع الاعجاب العام، بل انه صار قادراً على أن يختار فتاة لفؤاده، واحدة من أجمل حسناوين في البلدة: بيجين مايك، أو الأرملة كوين. وهكذا يمضي صاحبنا وقته وهو يعيد ويكرر حكايته بفخر متزايد، مع تعاظم تقدير السكان لبطولته. ولاحقاً، حين يكون بات على وشك أن يقرر أن بيجين هي التي اختارها مليكة لحياته، يظهر أبوه، ماهون العجوز، في شكل مفاجئ. صحيح أنه جريح مدمى ومتأرجح الخطى، لكنه ليس قتيلاً، بل هو حي يرزق. وبعد صدمة ظهوره الأولى أمام سكان البلدة، يتحول كريستي بسرعة من بطل لا يشق له غبار، الى محط تفكه السكان واحتقارهم، وتطاوله شتائمهم ونكاتهم، بل ان بيجين نفسها التي كانت هي الأخرى اختارته حبيباً لها، تنقلب الآن ضده. فما العمل؟ الحقيقة ان كريستي كان اعتاد على وضعه البطولي الجديد، وعلى أن يكون محط الاعجاب، ولهذا سرعان ما ينسى وهنه وضعفه القديمين، أمام رعبه من أن يصبح الى الأبد موضع تندر الآخرين واحتقارهم، وهكذا يقدم هذه المرة عن حق وحقيق، على إرداء أبيه، وهو يتوقع ان يهلل له الأهالي من جديد، وان تعود سيرته كما كان قبل فترة بطلاً وموضع اعجاب. لكن فتانا لم يدرك ان ما كان الأهالي حيّوه فيه، انما كان ذلك القاتل البطل الذي اقترف جريمته هناك بعيداً منهم، في مكان آخر، ما جعل فعله فعلاً أسطورياً، أما أن يقتل أباه الآن، أمامهم، في بلدتهم، فأمر يحوّله الى «مجرد قاتل وضيع لم يتوان عن قتل أبيه من أجل مجده الشخصي». غير ان الوضع كان لا يزال يحمل مفاجأة جديدة: فالحال أن الأب لم يمت هذه المرة أيضاً، بل انه تمكن من تمالك نفسه، في وقت كان أهل البلدة قبضوا على كريستي ويستعدون لشنقه جزاء له على ما فعل. وهنا يعود كريستي ماهون الى السيطرة على الموقف من جديد، إذ انه لم يعد قاتلاً لأبيه... وهو هذه المرة - وقد أصبح شخصاً جديداً تماماً - يمسك بيد أبيه الذي غفر له، ويتوجه معه عائدين الى مزرعتهما، فيما بيجين المسكينة خائبة المسعى تبكي حظها شاكية قائلة: «اواه يا جرحي العميق... لقد خسرته هذه المرة بكل تأكيد... لقد خسرت الفتى اللعوب الوحيد الذي عرفه العالم الغربي». هذه المسرحية المؤلفة من ثلاثة فصول، كتبها سينج في العام 1906، لتقدم للمرة الأولى بعد ذلك بشهور قليلة، وكانت الغاية منها بالتأكيد فضح أخلاقية الكثير من الارلنديين الغربيين الذين يقوم جزء من حياتهم اليومية على الثرثرة وعيش البطولات الوهمية، تلك البطولات التي يخترعونها لأنفسهم ويعبدونها من دون رادع، شرط ألا تكلفهم شيئاً. ومع هذا، على رغم طابعها الكوميدي، يتسم أسلوب المسرحية بقدر كبير من الشاعرية واللغة الجزلة... وكان واضحاً ان من كتبها، أديب يصل الى ذروة ابداعه. والحقيقة ان جون ملنغتون سينج (1871 - 1909) كان حين كتب «فتى العالم الغربي اللعوب» في ذروة تألقه ككاتب مسرحي على رغم ان أربع سنوات فقط كانت انقضت منذ بدأ يكتب حقاً للمسرح، هو الذي ظل يبحث عن طريقه الأدبي منذ شبابه الباكر يتنقل من بلد الى آخر (بين ارلندا والمانيا وفرنسا) يعيش هنا وهناك دارساً راصداً، ولكن من دون أن يجرؤ على البدء. أما البدء فكان بعدما التقى بمواطنه الشاعر ويليام بطلر ييتس الذي دفعه الى الكتابة وشجعه. وهكذا، طوال العقد الذي عاشه سينج بعد ذلك كتب ست مسرحيات، منها اثنتان من فصل واحد، وضعته في مصاف كبار كتاب المسرح في زمنه. غير ان مرضا عضالاً أصابه خلال تلك المرحلة، وسيقضي عليه، جعله في سباق دائم مع الزمن، ولا سيما حين استقر في سنواته الأخيرة في دبلن كعضو في اللجنة الإدارية ل«آبي ثياتر». [email protected]