لقاء الرياض التشاوري بين قادة دول مجلس التعاون كان ناجحاً بكل المقاييس، فقد أثبت قبل كل شيء، أن القادة العرب يمكن أن يلتقوا مرتين في العام الواحد، في جو عربي ندر فيه اللقاء بين القادة العرب في إطار القمم العربية! وهذا اللقاء التشاوري في الرياض هو الرابع عشر منذ أن بدأ تقليد اللقاءات التشاورية لقادة دول مجلس التعاون الخليجي. وقد أثبت لقاء الرياض التشاوري أن مجلس التعاون وُجد ليبقى... هكذا تريده شعوب المجلس قبل قادتها، وهي تنتظر منه المزيد من الإنجازات. في التاسع عشر من كانون الاول (ديسمبر) في القمة الخليجية الأخيرة في الرياض، طرح الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، ملك المملكة العربية السعودية، فكرةَ التحول من حقبة التعاون إلى مرحلة الاتحاد، وكانت قد مرت على تأسيس مجلس التعاون ثلاثون سنة –بين 1981 و 2011 ميلادية-. ولو كان الوضع طبيعياً في حوض الخليج العربي، لصار بالإمكان الانتظار زمناً أطول، فالاتحادات ينبغي أن «تنضج» مع الزمن (وكانت دول التعاون قد التزمت باتفاقيته التأسيسية التي تنص إحدى موادها على الوصول إلى صيغة «الاتحاد» بين دوله، فهذا التزام منها بالفكرة، وهي تواجه وضعاً غير طبيعي في المنطقة... فقد شهد جيل واحد ثلاثة حروب: الحرب العراقية الإيرانية، وحرب تحرير الكويت من احتلال صدام، والهجوم الأميركي على العراق للإطاحة بصدام. وتوشك المنطقة أن تشهد حرباً رابعة تتمثل في الاعتداء الإسرائيلي عل جمهورية إيران الإسلامية في ظل ازدياد التوتر بينها وبين دول الجانب العربي من الخليج، وتقديرنا أن إسرائيل لن تترك هذه المنطقة تنمو وتعيش في سلام، ولو بعد حين. إن فكرة الاتحاد فكرة سياسية محضة، وهي تهدف إلى مزيد من التضامن والتلاحم بين دول الخليج العربية. وقد حضر ملك البحرين حمد بن عيسى آل خليفة هذا اللقاء بعد تحسن كبير في وضع بلاده، فبعد أن استضافت البحرين رياضة عالمية هي سباق «الفورمولا وان»، جاء الملك بالمكاسب التي حققها ولي عهده الأمير سلمان بن حمد آل خليفة أثناء زيارته الأخيرة لواشنطن. ولو نظرنا إلى أكبر دولة بين دول المجلس، المملكة العربية السعودية، وأصغر دوله مملكة البحرين، لوجدنا أن «التوافق السياسي» هو المعوَّل عليه وكل بلد يحتفظ بخصاله التكوينية الأخرى. فالجدير بالملاحظة أن السعودية دولة برية والبحرين دولة بحرية، بكل الخصائص التكوينية الناجمة عن هذا الاختلاف. ثم إن أهل نجد بالذات، وهم المؤسسون للدولة السعودية، أتباع للمذهب الحنبلي، وآل خليفة حكام البحرين، والذين أعطوها شخصيتها وكيانها، هم من أتباع المذهب المالكي، كأبناء عمومتهم حكام الكويت. ويلاحظ أن آل خليفة لم يعتنقوا دعوة «التوحيد» -المعروفة خطأً بالوهابية- ولم يسعوا إلى تطبيقها على مجتمع البحرين، الذي غلب عليه المذهبان الشافعي والإمامي (إضافة إلى منحدرين من عشائر عربية يتوزعون بين المالكية والحنبلية)، وتركوا الناس يختارون ما يشاؤون. ثم إن مجتمع البحرين كمجتمع بحري، عُرف بانفتاحه ومكانة المرأة وعملها فيه، بينما مجتمع السعودية كمجتمع بري، اشتُهر بمحافظته وتمسكه الشديد بتعاليم الدين. ولكن كل هذا «الاختلاف» لم يفسد للود قضية، لقد أدركت البحرين أن السعودية تمثل «العمق الإستراتيجي» لكل دول الجانب العربي من الخليج. وقد اتضح ذلك في حرب تحرير دولة الكويت، ما أدى إلى تغيير ملحوظ في المواقف السياسية الكويتية والخليجية. ومنذ أن قال الشيخ عيسى بن علي لأمين الريحاني عندما سأله أثناء لقائه به عام 1922، عندما زار الريحاني البحرين وفوجئ بما فيها من تقدم: «تحضرون المؤتمر العربي الإسلامي الذي دعا إليه شريف مكة؟»، فقال الشيخ عيسى بن علي للريحاني، وهذا ما سجله الريحاني في كتابه «ملوك العرب» للتاريخ وللحقيقة: «نحضر إذا حضر سلطان نجد»، وكان الملك عبد العزيز آل سعود سلطاناً لنجد في حينه، قبل تأسيس المملكة العربية السعودية. ومنذ ذلك الوقت وقبله، كانت العلاقات التاريخية بين السعودية والبحرين تشهد نمواً مضطرداً، رغم التواجد الأجنبي في البحرين، وكان الملك عبد العزيز حريصاً على زيارة البحرين كلما سنحت الفرصة، وهو صاحب المقولة التاريخية المشهورة التي يعتز بها البحرينيون: «القلوب مجتمعة»، في إشارة منه إلى تلاقي أهل البلدين وحكامهما. وبعد عبد العزيز، كان أبناؤه حريصين على إبقاء تلك العلاقة المتينة مع البلد الذي يختلف مجتمعهم عنه منذ عهد الملك سعود بن عبد العزيز إلى عهد الملك عبد الله بن عبد العزيز. وكان طبيعياً أن يبدأ «الاتحاد الخليجي» بينهما، وأن يكونا «نموذجاً» للتلاحم والتقارب بين دول الخليج العربية. إن ما ينبغي تبينه، هو أن ما حدث هو عبارة عن «توافق سياسي» فحسب، ولا يمس الجوانب الأخرى، ومن أجل تعميق ذلك «التوافق السياسي» وتعزيزه قام مجلس التعاون في الأصل. إن شعوب دول المجلس تتطلع إلى منجزات تحمي كيانها، وتعزز أمنها، وتعود بالمزيد من الرفاهية والرخاء على أبنائها، ولا بد من مظلة «توافق سياسي» تظلل هذه التطلعات المشروعة. وللأمانة، فإن قطاعات من تلك الشعوب لا ترى أن المجلس قد حقق لها في مسيرته ما تريد، ومردّ ذلك إلى أن القرارات تُتخذ على مستوى القمة، لكن عندما يصل الأمر إلى «التنفيذ» تتعطل تلك القرارات، فما السبب في ذلك؟ يمكن أن يعود السبب إلى تقديم «المصالح الذاتية» على «المصالح العامة» بين دول المجلس، لكن المخاطر الماثلة تهدد بمحو المصالح الذاتية قبل المصالح العامة، ولا بد من كيان أمني سياسي يحمي المنطقة من تلك المخاطر. هذا هو الهدف من دعوة الملك عبد الله بن عبد العزيز إلى الانتقال من حقبة التعاون إلى حقبة الاتحاد، وليس ثمة بديل على ذلك، وإلا كيف تمكن حماية دول المجلس وشعوبه إذا انفردت كل دولة بطريقها الخاص؟ * أكاديمي وكاتب من البحرين