صناعة الانتخابات الأميركية هي ديموقراطية الأثرياء كما بينت أمس. فالحملة الانتخابية، خصوصاً إذا شملت الرئاسة لا تستحق اسمها إذا لم تُنفق عليها بلايين الدولارات. باراك أوباما أنفق رقماً قياسياً وهو على طريق الفوز بالرئاسة، إلا أنه كان رقماً مميزاً ايضاً لأن المرشح لم يعتمد كثيراً على فلوس كبار المتبرعين وجماعات الضغط المعروفة، وإنما توجه عبر التكنولوجيا الى الناخبين العاديين مباشرة، وجمع من تبرعات بمئة دولار أو مئتين ما فاق كل ما جمع جون ماكين والحزب الجمهوري لمرشحه. أعتقد أن حظ أوباما الحسن، أو «تأثير أوباما» كما يسمونه في أميركا، سيستمر عبر الانتخابات النصفية، لأن لا سبب منطقياً يجعلني أتوقع أن يخسر الديموقراطيون غالبيتهم في مجلس النواب أو مجلس الشيوخ، بل إن ما قرأت كان عن احتمال زيادة الغالبية، مع أنني ألزم الحذر هنا، فأنا أتابع الانتخابات الأميركية منذ عقود، والقاعدة العامة هنا أن يخسر الحزب الحاكم في الانتخابات النصفية. الجمهوريون على ما يبدو سيتاجرون بورقة الاقتصاد الذي دمروه بأيديهم، وهم يقولون إن الاقتصاد الأميركي لم ينهض من عثاره بعد، وإن البطالة في حدود 9.5 في المئة، وهو رقم عالٍ يصيب ملايين الأسر الأميركية، إلا أن الجمهوريين ينسون أن الانتخابات النصفية ستُجرى بعد سنة وبضعة أشهر (2/11/2010)، وأن الأرجح أن يستقر الاقتصاد الأميركي، إذا لم ينهض في شكل ملحوظ، وهو إذا فعل فسيدفع الجمهوريون ثمن أخطائهم مرة أخرى. يبقى الاقتصاد النقطة الأهم، وهناك استطلاعات تظهر أن الناخب الأميركي غير مرتاح لأداء الإدارة، إلا أن استطلاعات أخرى تظهر استمرار الثقة العالية بالرئيس وسياسته. وهو حسّن فعلاً صورة بلاده حول العالم، وزار خلال أشهر أوروبا وأميركا اللاتينية، وخاطب المسلمين في القاهرة، وزار روسيا وأفريقيا، واستقبل في البيت الأبيض نصف زعماء العالم حتى الآن، وهو يعمل كل ليلة الى ما بعد منتصف الليل بعد أن كان جورج بوش يلعب رياضة ويطفئ الأنوار في العاشرة مساء. وربما زدت هنا دور نائب الرئيس جو بايدن في دعم عمل أوباما، فهو صاحب خبرة 36 سنة في مجلس الشيوخ، وقد زار أوروبا وأدلى بأول تصريح للإدارة الجديدة عن السياسة الخارجية، كما زار أميركا اللاتينية ومهد لقمة الأميركتين بحضور أوباما، وزار البلقان وبيروت، وحكى لأنصار اسرائيل في اجتماعهم السنوي عن ضرورة قيام دولة فلسطينية. باختصار، بايدن ردّ الى منصب نائب الرئيس الاحترام الذي فقده مع زعيم عصابة الحرب ديك تشيني. قلت أمس إن للديموقراطيين 58 مقعداً في مجلس الشيوخ، كما يصوت اثنان من المستقلين معهم، مقابل 40 جمهورياً. والنائبان المستقلان هما جو ليبرمان من كونتكت وبيري ساندرز من فرمونت، والولايتان بين أصغر الولايات الأميركية حجماً وعدد سكان. ليبرمان ليكودي يمثل اسرائيل في مجلس الشيوخ، وكان الحزب الجمهوري نبذهُ، فرشح نفسه مستقلاً بدعم من اللوبي إياه، وحمل على خصمه نيد لامونت، فكانت أشد تهمة أنه لا يؤيد اسرائيل كفاية، وكنت أتمنى لو أنه يخوض الانتخابات السنة المقبلة لعله يخسر، إلا أنه باق حتى 2014 وأجده عاراً على السياسة الأميركية. هل هي صدفة أن يخرج ليبرمان على حزبه وأن يكون الخارج الآخر هو ارلن سبكتر الذي يشبه ليبرمان في أنه يصوت عادة في شكل ليبرالي إلا عندما يكون الموضوع اسرائيل، فكلاهما الى يمين ليكود، وهما يمثلان اسرائيل لا مصالح بلادهما، وقد قرأت رسائل قراء أميركيين كثيرين، رأيهم مثل رأيي، منشورة في صحف أميركية ونقلت بعضها في هذه الزاوية. الليكودي سبكتر خاف أن يختار الحزب الجمهوري مرشحاً آخر لمجلس الشيوخ فانتقل الى الحزب الديموقراطي ليخوض الانتخابات عنه السنة المقبلة، وعمره 80 سنة، بعد خمس دورات ممثلاً اسرائيل والحزب الجمهوري. وقرأت أن النائب جو سيستال يريد منافسته على المقعد وأتمنى أن يهزمه، فعنده المطلوب وهو أميرال متقاعد، ما يضمن تأييد المحافظين، ثم إنه يؤيد برامج أوباما، ما يجعل الليبراليين يميلون اليه. أمثال ليبرمان وسبكتر هم الذين جعلوا بات بوكانان يقول إن مبنى الكابيتول حيث مجلسا الكونغرس «أرض تحتلها اسرائيل»، فلعلها تحرر مع أرض فلسطين.