لم يكن عادياً عرض «هنا/لاحقاً» (أو Here/After)، للمخرجة كونستانزا ماكراس، والذي قدم على «مسرح الفلكي» في القاهرة أخيراً. عمل مركّب بكل ما للكلمة من معنى، إن على صعيد الشكل إذ يمزج المشاهد الدرامية بالموسيقى الحية والرقص ومقاطع الفيديو، أو لجهة الأفكار التي يرميها بحس فني ومتعة في حضن المتلقي، أفكار على قدر لافت من العمق والتعقيد بل والفلسفة، علماً أن الفكرة المحورية تدور حول هواجس الإنسان العصري وانزوائه في شرنقة غرف المحادثة الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي، تسايره على هواه خدمات إيصال الطعام وسائر المشتريات إلى المنزل. هي فكرة المدن الكبرى التي تلتهم حياة الإنسان وتجور على خصوصيته وتفرده. إنه الصراع بين الوجود الفردي والدور الاجتماعي، بين الخاص والعام، وهي القضية التي تشغل عقل المخرجة وسبق أن تناولتها في سياقات متباينة في عروض مثل Big in Bombay – Megalopolis. ففي رأيها، المدينة مستودع هائل لإمكانات التواصل اللانهائية، لكن يبدو أن شيئاً ما قد ضاع إلى الأبد في خضم هذا الفضاء الاجتماعي. وتجمع ماكراس، التي قدمت عروضها في معظم مدن العالم، فنانين ومواضيع من أنحاء شتى، وتمزج فنون الدراما بالموسيقى بالفيديو في نسق ومزاج يتصاعد عبر دوران الإنسان حول نفسه باستخدام دائرة خشبية يعدو فوقها الممثلون في حركة لا نهائية بقوة وإصرار، لا تفضي إلى شيء. وهذه الفكرة الأخيرة مأخوذة من واقعة حقيقية، كما تقول إحدى بطلات العرض تاتيانا إيفا، إذ نشرت الصحف فعلاً خبر وفاة شخص وحيد في منزله وكان يدور حول نفسه في هذا الشكل، «واكتشفنا أنه لم يغادر منزله منذ عشر سنوات!». وتضيف إيفا: «الإنسان في المدن الكبيرة أصبح يفتش عن أعذار ويتعلل بأشياء، مثل الانشغال بالإنترنت والتلفزيون حتى لا يخرج من المنزل ويواجه الحياة، تلك الحياة اليومية الصعبة في تلك المدن. هناك ما يسمى الآن الفوبيا (الرُّهاب) من الأماكن العامة والتجمعات البشرية الكبيرة». وعما يتغير بين عروض «دوركي بارك» المختلفة، تقول: «هناك مقاطع أصلية أو محورية في كل عرض، لا يمكن الاستغناء عنها، لكننا نبدّل مقاطع أو مشاهد أخرى أو نركّب فيديو جديداً من اليوتيوب، وهكذا...». وعن المشهد الذي تتبادل فيه مع زميلتها الممثلة ميكي شوجي، لعبة التمثيل، فتمثّل واحدة مقطعاً من فيلم، فيما على الأخرى أن تحزر النجمة التي تؤدي الدور، تقول: «أردنا السخرية قليلاً من حياة نجمات هوليوود المترفة وسيطرة نمط معين من الأداء على وجدان الجمهور في العالم كله». ساعة ونصف ساعة هي مدة العرض، لا يسع الملل أن يتسلل خلالها إلى المشاهد لشدة الإبهار والدقة والجدية في كل شيء: الأداء، الرقص، توزيع الإضاءة بين الممثلين والمغني والفتاة الراقصة في داخل الصندوق الزجاجي، إضافة إلى مقاطع الفيديو التي تكثف الشعور بالفكرة الأساسية للعرض، فكرة اغتراب الإنسان في مدن تعجّ بالناس والحركة بلا نهاية، ومع ذلك يبقى وحيداً ومعزولاً. ولدت كونستانزا ماكراس في الأرجنتين، ودرست الرقص هناك، ثم سافرت إلى أمستردام ونيويورك وفازت بجائزتي معهد غوته لأفضل إنتاج ألماني في 2008، ودير فاوست من المسرح القومي الألماني كأفضل تصميم رقصات 2010. أسست مع الفنانة المسرحية كارمن ميزت فرقة «دوركي بارك» 2003، وتضم الفرقة الألمانية راقصين وممثلين وموسيقيين مع مؤدّين تتراوح أعمارهم بين 4 و73 سنة، وقامت الفرقة بجولات في كوريا الجنوبية واليابان والصين وإندونيسيا والبرازيل وتشيلي وجنوب أفريقيا والولايات المتحدة، وغادر أعضاؤها مصر أخيراً إلى فيينا حيث سيحيون حفلات. يذكر أن عرض «هنا/لاحقاً» قدّم ضمن «مهرجان الربيع» الذي تنظمه مؤسسة المورد ونشاطات الأسابيع الألمانية في مصر.