نقطة، ومن أول السطر! ثورة متلفزة، اشتباكات على الهواء مباشرة، تمويه للحقائق باستخدام الصورة الحية من موقع الحدث، وفي أحيان أخرى تهويل لها. الكاميرا حاضرة وجاهزة، تنقل جولات الكر والفر. برامج الحوارات والتقارير، بل برامج الفن والرياضة، تتكالب على استضافة الأطراف المتناحرة ومناقشة القوى المتنافرة. الحراك السياسي والزخم الحواري ينتقل إلى كل بيت ويفرض ذاته من خلال الشاشة. حفنة من القنوات باتت مسؤولة عن تشكيل وعي الشعب، والتحكم في مزاجه. الجميع يلعب لعبة الاتهامات المتبادلة! يتهمون القنوات بالتحريض تارة، ثم تتحول الاتهامات إلى دفة المؤامرات، ثم تعود إلى الدعوة بالتهدئة والعمل على رفع الوعي وبث وحدة الصف. مجلس الشعب يطالب بضبط الإعلام المنفلت. لكن ما قد يبدو منفلتاً للإسلام السياسي من خلال برنامج جريء ينتقد ويهاجم هو عين العقل لليبرالي، وما قد يظهر تحريضياً لليبرالي من خلال قناة دينية هو الوصفة السحرية لرفعة شأن الأمة. زخم وحراك سياسي وتلفزيوني يميلان للفوضى حيناً ويعرجان على تحريك مياه السنوات الراكدة أحياناً يصيبان الجميع بشعور عارم بالتعب وإحساس فظيع بالإعياء. وفجأة، تنفتح آفاق جديدة، وتعود دقات القلوب إلى معدلاتها الطبيعية! بصيص أمل وطاقة نور. ألا يقولون إنه من رحم الألم والمعاناة (ونضيف إليهما الثورة والفوضى) يولد الأمل والإنجاز (ونضيف إليهما حق الاختيار ومساءلة الكبار)! سهر المصريون أول من أمس سهرة طويلة ممتعة أمام التلفزيون. الشوارع التي كانت تكتظ بملايين البشر بدت أهدأ بكثير. الشباب الذين يمضون سهرة الخميس في المقاهي والنوادي لم يغيروا الروتين، لكن الروتين هو الذي تغير. الشاشات العملاقة التي كان دورها يقتصر على رفع معدلات أدرينالين الرواد بعرض مباراة الأهلي في نهائي الدوري أو مواجهة المنتخب أمام الكاميرون تحولت إلى «المناظرة». عمرو موسى وعبدالمنعم أبو الفتوح، المرشحان الأقوى في انتخابات الرئاسة يقفان وجهاً لوجه أمام المذيعين منى الشاذلي ويسري فودة. يخضعان للأسئلة، ويجيبان في توقيت محدد مسبقاً. يخضعان لقواعد اللعبة ولا تخضع اللعبة لقواعدهما. يسمح لكل منهما بتوجيه سؤال الى الآخر، وعلى الآخر أن يجيب. إذا راوغ، فهو مكشوف، وإن رد السؤال بسؤال، فهو مرفوض. الشعب يتابع رئيسه المقبل (على الأرجح) ويصدر عليه الأحكام. «هذه أمسية تاريخية أخذتنا إليها دماء الشهداء وأطراف المصابين وعيونهم، وحناجر كل من هتف بكلمة الحق في وجه سلطان جائر: عيش حرية عدالة اجتماعية. لهم نهديها ولوطن ما زال مثخناً بالجراح!» صدق يسري فودة! وصدقت ثورة «25 يناير» التي أذهلت العالم! فإن كان أبرز إنجازاتها إسقاط النظام، فإن ثاني أبرز إنجازاتها هو مناظرة المرشحين. لا يهم كثيراً ما يقولونه. لكن المهم هو «المناظرة»! هي حالة فريدة، وثقافة وليدة تؤرخ لنقطة جديدة، ومن أول السطر!