ممّا يميّز القائد الشعبيّ الفاضل عن القائد الشعبويّ العاميّ أنّ الأوّل يحبّه الشعب، فيما الثاني يتظاهر بحبّ الشعب. أهمّ من ذلك أنّ الأوّل يخوض مهمّة صعبة هي أنّه يحظى بتلك المحبّة بشروطه هو، أي من خلال نقله قيماً إلى الشعب جديدة عليه، أو مطالبته الشعب بمواقف غير معهودة فيه. في هذا المعنى، وفي معزل عن انتقاد لهم هنا أو هناك، كان رجال كنيلسون مانديلاّ وشارل ديغول وأنور السادات واسحق رابين قادة شعبيّين حين دشّنوا مواقف لم تكن شعبيّة في أوساطهم وبين جمهورهم. أمّا الشعبويّ فلا يخوض مغامرات مكلفة كهذه، بل يلحق ب «الشعب»، مستفرغاً أدنى مشاعره ومردّداً ثفالة كلامه. وفي هذا المعنى، لا يكون مهمّاً في القائد الشعبويّ ما الذي يقوله بقدر ما يهمّ كيف يقوله، رفعاً للصوت واستنطاقاً لغضب ناريّ وتصعيداً للغرائز ومسْرحَةً لأصغر الأحداث، فضلاً عن إشهار البذاءة الكلاميّة التي يُفترض أنّها «لغة الشعب». صحيح أنّنا في لبنان، وربّما في العالم العربيّ، لا نملك قادة وسياسيّين ينقلون إلى الشعب قيماً ليست قيمه، أو يطالبونه بمواقف ليست معهودة أو مألوفة فيه. لكنْ نادراً جدّاً ما امتلكنا قادة من النوع الذي نراه اليوم في استفراغ أدنى المشاعر وترداد ثفالات الكلام. والسياسيّ الشعبويّ، وهو غالباً «زعيم» على نحو أو آخر، يسعى إلى علاقة مع الشعب بلا وسائط من لغة أو أخلاق أو مؤسّسات. فهو ملتحم ب «جماهيره» التحاماً مكتملاً بذاته: ذاك أنّ الناس «يحبّونه» حتّى لو وقف أمامهم وتجشّأ أو غنّى أو رفع يده أو مرّ مرور طيف مقدّس وما لبث أن اختفى عن النظر. وهو إذا تحدّث إلى «شعبه» ركّز على عدوّ واحد وعلى تناقض أحد. ذاك أنّ اللاعقلانيّة التي يقيم زعامته عليها لا تحتمل التعقيد والاستثناءات والاستدراكات، وهي طبعاً لا تلحظ التحوّلات في موقع الخصم أو في المعطيات الإجماليّة المحيطة. فهنا يسود الصحّ المطلق في مواجهة الغلط المطلق، ضدّاً على السياسة بمعناها الديموقراطيّ الحديث كنزاع في الوسط بين وجهات نظر متخاصمة وليست عدوّة. وعملاً بوجود تناقض واحد أحد يرتسم «الشعب» واقفاً في جانب بينما تقف في جانب آخر نخبة متآمرة وقذرة من أهل الألعاب السياسيّة أو أهل المال. ذاك أنّ أقليّة الشرّ التي تستند إلى قوى خفيّة ومتآمرة إنّما توجه الخير والصالح العامّ من غير أن يردعها ضمير. وهؤلاء، بالطبع، يستندون إلى الإعلام الذي يكرهه الزعيم الشعبويّ لأنّه مساحة للآراء والنقد والنقاش وكسر المقدّس الذي يصبغ الزعيم الشعبويّ نفسه به. وهذا مع أنّ الإعلام يُجهد نفسه كي يقدّم ذاك الزعيم متحايلاً على بذاءاته وموفّقاً بين قوله وبين سائد الأذواق المتحضّرة. وغنيّ عن التذكير بأنّ «المفاهيم» التي تتشكّل منها لغة الزعيم الشعبويّ، كرهاً لطغمة ماليّة فاسدة أو لتحكّم سياسيّ أقلّيّ أو للإعلام، وهؤلاء عموماً «أخطبوط» واحد، إنّما بلغت ذروتها وتألّقها في الخطاب النازيّ. فحينما انتهت الحرب العالميّة الثانية لم تظهر في أوروبا زعامة كزعامة الفرنسيّ جان ماري لوبن نسجاً على منوالها الخطابيّ واقتداءً بمثالاتها. وها هي ابنته مارين وجبهتهما «الوطنيّة»، وفي آخر إبداعاتهما، تكتشفان فضائل في النظام السوريّ تحمل على الدعم والتأييد. أمّا الأساس الضمنيّ لموقف كهذا، بعد أخذ عنصريّة لوبن في الاعتبار، فأنّ هذا الشعب السوريّ لا يستحقّ أفضل من حكمه وحاكمه الحاليّين. فهل يحزر اللبنانيّون من هو لوبن اللبنانيّ؟