استأثرت أحداث الربيع العربي، بخاصة تداعياته الاجتماعية، بحصة كبيرة من الأفلام المشاركة في الدورة الأخيرة (الثامنة) لمهرجان الجزيرة الدولي للأفلام التسجيلية الذي استضافته أخيراً قطر. وعلى مدى أسبوع تم عرض 168 فيلماً من 59 بلداً، بينها 28 فيلماً طويلاً و66 متوسطاً و46 قصيراً. وحصد الفيلم المصري «نصف ثورة» للمخرجين عمر الشرقاوي وكريم الحكيم الجائزة الذهبية من بين 17 عملاً فائزاً هيمنت عليها ظلال القضية الفلسطينية والربيع العربي والوضع الصعب في العراق. وفاز المخرج الإيراني مهدي زامانبور كياساري بجائزة لجنة التحكيم عن فئة الفيلم المتوسط عن فيلمه «مشتي إسماعيل». وحظيت المعاناة الفلسطينية باهتمام خاص في افتتاح المهرجان، إذ تم عرض فيلم «مونولوجات من غزة» للمخرج خليل المزين، وفيلم «الحجارة المقدسة» للمخرجين مؤيد عليان وليلى حجازي. وفيما تضمن الفيلم الأول رسالة مفادها بأن الفن وسيلة لتخفيف آلام الأطفال الفلسطينيين في غزة، عبر مشروع تنفذه الفنانة الفلسطينية المعروفة إيمان عون، بتدريب عدد من الأطفال الغزيين على التمثيل وتفريغ شحناتهم المكبوتة جراء الحرب على القطاع في 2008، نقل الفيلم الثاني جانباً مما يعانيه الفلسطينيون من مشاكل بيئية وصحية بسبب اقتلاع الصخور لاستخدامها في بناء المستوطنات الإسرائيلية. وتروي شخصيات الفيلم معاناتها جراء القصف والحصار وتداعياتهما على حياة الناس العاديين، مثل انقطاعات الكهرباء المتكررة، إذ تجول كاميرا المزين لإظهار شوارع غزة وهي غارقة في أوجاعها، في حين يعاني أطفالها الصدمات النفسية جراء حرب قاسية انتزعت منهم طفولتهم. قضايا إنسانية ولاحظ نقاد أن الأفلام الخمسة المشاركة في المسابقة التي واكبت ربيع العرب، وهي «نصف ثورة» و»عام بعد ربيع عربي» و«غير منصف» و«اسمي مواطن مصري» و«سيدة الميدان»، كانت كلها من مصر بينما غابت الأفلام التي تنقل ملامح ربيع العرب في تونس واليمن وسورية. وعُرض ضمن قسم «أفق جديد» 19 فيلماً جديداً بينها «خلف الخيام» للبناني جود شهاب الذي يحكي الحياة اليومية لأطفال البدو في سهل البقاع المغمسة بملامح الفرح والعمل والأحلام، وفيلم «تعليم بلا حدود» للسوداني حمزة الأمين الذي يروي قصة مجموعة بلا حدود التي تسعى للنهوض بالبيئة المدرسية ونشر التعليم في مناطق السودان، و«من أجل مصر» للمخرجين ماريان ماهر وخليل وهبة، الذي يحكي قصة أحد شهداء الثورة في مصر، و«موقعة الجمل» للمخرجة هبة الحسيني الذي يعيد تركيب الحادثة الشهيرة في عيون الثوار الذين عاشوا المعركة، و«وجه آخر» لفيكتوريا موسغوين التي تابعت خطوات أول فتاة أفغانية درست في أوكسفورد واسمها شهرزاد أكبر، فيما يصور فيلم «أربعة شهور» لريهام هشام ونور أبو عاصي من قطر الأشهر الأربعة الأخيرة من حياة مريض مصاب بالسرطان. ولوحظت سيطرة القضايا الإنسانية على الأفلام الفائزة كما في «أوروبا.. الوجه الآخر» الذي عرض معاناة الأفارقة بعد لجوئهم إلى إيطاليا، والتحديات التي تواجههم في محاولتهم العثور على حياة كريمة هناك. بانوراما فنية متنوعة وقال مدير المهرجان عباس أرناؤوط ل»الحياة» إنه تلقى ألف فيلم تمت الموافقة على 170 فيلماً منها عُرضت على مدى أيام الدورة الأربعة، وقدمت بانوراما فنية عن مجمل الدول المشاركة في المهرجان، مع بروز استثنائي لتداعيات الربيع العربي، مؤكداً أن «المهرجان سيظل منبراً لكل صوت مبدع يعمل من أجل إعلاء قيم الحرية دونما تحيز». وقالت المخرجة التركية سيبال غولوغلو مسقي التي اختيرت عضواً في لجنة التحكيم إنها شاهدت أفلاماً كثيرة من فنانين أتوا من قارات شتى يحملون وجهات نظر مختلفة عن مناطقهم وأوضاعهم، فاللبنانيون مثلاً قدموا وثائقيات عن بلدهم، لكن الدنمارك قدم لبنان أيضاً من زاوية أخرى. ورأت أن الفرق في الأفلام المعروضة يكمن في الوسائل والتقنيات وأيضاً في المسارات المختلفة. وقالت مسقي التي تحضر المهرجان للعام الثالث على التوالي ل»الحياة»، إنها لاحظت أن الأفلام صارت أفضل من دورة إلى أخرى. أضافت عضو لجنة التحكيم أن «كثيراً من الوثائقيات تناولت الحروب في الدورات السابقة وكانت مؤثرة بسبب صور القصف والدمار والآلام، أما في هذه الدورة فاهتم الأوروبيون بالثورات العربية وقدموا وجهات نظر مختلفة عنها، وهذا جديد ومهم بالنسبة لي، إذ أن الاهتمام بقضايا العالم العربي والمشاركة بتلك الأفلام في المهرجانات يمكنان مناطق أخرى في العالم من معرفة ما يجري في المناطق البعيدة عنها». ولاحظت أن الأفلام على الرغم من كونها وثائقية أضيفت إليها مواضيع جعلتها أقرب إلى الرواية Fiction والسينما، «وهي طريقة جديدة لنقل الحقيقة تحمل فوائد كثيرة. بالمقابل أتت بعض الوثائقيات بلا موسيقى مُقتصرة على الوقائع والأحداث، وكانت جميلة أيضاً، وهذا مؤشر إلى أن الوثائقيات تتحسن تماماً مثل المواضيع المطروقة». وشددت على أهمية الإقبال الذي جعل الجمهور يتابع بعض العروض وقوفاً لقلة المقاعد الشاغرة، على سعة القاعة الرئيسية. وأكدت وجود «توازن في تمثيل المناطق الجغرافية المختلفة إذ كانت هناك فرصة للجميع، وشاهدنا مئات الأفلام في كل حصة، والتي كانت بينها طبعاً أفلام هزيلة، لكن روعي في إشراكها منح الفرصة للجميع، بخاصة أن وسائل البعض قد تكون محدودة أو نظرته مختلفة عنا، وهذا ما يفسر وجود أفلام كثيرة عن العالم العربي من إنتاج أوروبيين». في المقابل اشترطت مسقي إنتاج أفلام جيدة فنياً ومضمونياً للوصول إلى عقول الأوروبيين وتعريفهم بقضايا العرب والمسلمين». معرض تجاري وشكل المهرجان أيضاً فرصة لدور الإنتاج السينمائي والتليفزيوني للتعريف بمنتوجاتها وربط علاقات مع شركات التوزيع والمحطات التليفزيونية، إذ أقيم معرض تجاري بالتوازي مع العروض شارك فيه عارضون من كل القارات، وسيُنقل في الدورة المقبلة إلى منطقة المعارض. وأفادت ممثلة دار «ميديا لينك أنترناشيونال» اللبنانية ريم المصري أن المعرض الذي شاركت فيه ست وخمسون شركة من واحد وعشرين بلداً شكل فرصة لعرض أفلام تسجيلية من لبنان على شركات يابانية وأوروبية وعربية تخص البيئة والتكنولوجيا والحياة البرية، مؤكدة أن المعرض أتاح إقامة تعاون مع شركة تركية والتعرف على طلبات المحطات التليفزيونية. وأشارت إلى أن المهم في هكذا معارض ليس البيع وإنما التعرف إلى شركاء وزبائن جدد، وكذلك الاطلاع على آخر الإنتاجات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. أما الياباني كيجي شنتاني، وهو خبير في الشؤون العربية ورئيس شركة «إيريكو» فاعتبر أن المهرجان بعروضه الفيلمية ومعرضه التجاري مرآة عكست آخر التطورات في مجال الفيلم التسجيلي في المنطقة العربية. يُذكر أن هيئة التحكيم في المهرجان تألفت من ثلاث لجان ضمت كل منها خمسة أعضاء ينتمون إلى جنسيات مختلفة، بينها مصر والصين وقطر وكوبا وروسيا والعراق وإيطاليا وألمانيا واليونان والنرويج وإيران.