حين سيطر مسلحو «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) على مدينة الموصل (مركز محافظة نينوى في الجزء الشمالي الغربي من العراق) ثاني أكبر المدن العراقية، في 10 حزيران (يونيو) تقدموا مسافة تبعدهم حوالى 7 كلم من مناطق المسيحيين (بخديده - قرة قوش، الحمدانية، تل كيف، تللسقف، بيت ناي، ألقوش، برطلة، كرمليس وغيرها). ومنذ ذلك اليوم، يعيش سكان مدينة قرة قوش (سهل نينوى شمال العراق) ذات الغالبية المسيحية في رعب. وعلى رغم أن المسلّحين لم يدخلوا البلدة حتى الآن، فإن الخوف ما زال مقيماً فيها. ويلخّص إيفان (مدرس الرياضيات) الذي انضمّ إلى عائلات تطلب المساعدة من المؤسسات غير الحكومية في المطرانية الشرقية الآشورية في لبنان، وهو ابن عائلة مسيحية من قرة قوش انتقل إلى أربيل بسيارته مع زوجته بسمة الحامل في الشهر التاسع محتمياً بقوات البيشمركة الكردية ليصل في 1 تموز (يوليو) إلى لبنان، الوضع في منطقته، بغصة: بقيت وعائلتي 6 أيام لم نبارح منزلنا. يخاف من بقي من المسيحيين العراقيين في مدينة قرة قوش (50 ألف مسيحي) من التقدم السريع لمسلحي «داعش»، فمنهم من لجأ إلى أحضان البيشمركة لتحميهم ومنهم من اضطرّ لنزوح مفاجئ وجماعي لم يسبق له مثيل، متوخّين الأمن في مدن إقليم كردستان، ومنهم من هرب إلى تركياولبنان. وتروي عائلات مسيحية أتت إلى لبنان، أهوالاً عايشتها كلما تقدّم «داعش» إلى مناطقها. يقول إيفان: «أصبحت قرة قوش ملاذاً آمناً وسجناً لسكانها المحليين الذين نزح حوالى نصفهم إلى أربيل، وغادر مزيد من أهلها بعد القصف العشوائي بقذائف الهاون والمعارك التي نشبت بين المسلحين وقوات البيشمركة على أطراف المدينة وعاد إليها 10 آلاف». ويضيف: «غباء أن نكون ما زلنا هناك، أما العودة فخط أسود والعراق لم يعد لنا». لا يعرف إيفان كيف أن «1500 من قوات البيشمركة الكردية جاؤوا من أربيل، واتخذوا مواقعهم على أطراف المدينة بعد انسحاب جيش رئيس الحكومة نوري المالكي من مواقعه قرب قرة قوش، وترك البلدة بلا حماية». تقاطعه زوجته بسمة التي أجبرت على الكذب في مطار أربيل، وقالت إنها حامل في الشهر السابع: «صار عندي ضغط من شدة الخوف. شعرنا بمقدار من الأمان منذ مجيء الكرد، لكن تمركزهم هناك أخافنا». ويتابع إيفان: «تلقينا تهديدات غير مباشرة من حواضن (جماعات) على صلة ب «داعش» في المنطقة وتلك التهديدات تصل إلى أربيل والسليمانية، على رغم أنها آمنة». ويروي: «في 25 حزيران الساعة الثالثة عصراً هجم «داعش» على بيوتنا بالقذائف، لم نوضّب شيئاً. أخذنا فقط جوازات سفرنا ومستمسكات وألبومات صور، ومكثنا في الشارع مدّة 20 يوماً وعشنا على أعصابنا... كنا نتحضّر للموت كلما سمعنا طلقة نارية. في 1 تموز قطعنا تذاكر إلى لبنان، لأنه بلد مضياف ونشعر بأن لدينا أهلاً ولو لم تربطنا بهم صلة عائلية». طلب اللجوء الى أوروبا ويقول إيفان إنه طلب اللجوء إلى أي بلد أوروبي في المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، ولكن «المفوضية أعطتنا الموعد الثاني في كانون الثاني (يناير) عام 2015»، متمنياً «لو أن الدول الأوروبية تفتح لنا أبوابها، لأن العودة مستحيلة فالعقليات التي سيطرت على منطقتنا ليست عقليات بشر». أما سمير (يعمل في البناء) من مدينة الموصل التي تبعد من قرة قوش 30 كلم، فاختار المجيء الموقت إلى لبنان مع زوجته وابنه البالغ من العمر سنتين، «لأننا نشعر بأمان في المناطق المسيحية هنا». ويقول: «في تشرين الأول (أكتوبر) عام 2008 عانينا المأساة نفسها، تهجرت إلى سورية ل5 سنوات وعدت إلى العراق عام 2012 لأعيش اليوم المأساة نفسها». ويضيف أن «آخر تهديد للمسيحيين في المدينة كان يوم السبت الماضي، وكانت المهلة لغاية الساعة 12 ظهراً ومن خرج من منزله الساعة 6 خرج من دون أمواله ومدخراته الذهبية، والذي يعبر بعد الساعة العاشرة يسلبون منه سيارته ويصل سيراً على الأقدام إلى أحد المعابر حيث ينتظره أقرباؤه». ويتابع أن «المسلحين سيطروا على الموصل بقطع كل الطرق المؤدية إليها لكي لا يهرب أحد وتركوا طريقا نافذاً للخروج منها وأقاموا الحواجز». يروي سمير الذي ترك أخاه وأباه في الموصل كيف عبر أحد حواجز مسلّحي «داعش»: «لم أتفوّه بحرف حتى نظراتي إليهم كانت مختصرة. كنت أسمع وأنفّذ، وأعطيتهم المال والذهب لتجنب تعرضهم لزوجتي وابني. قال لي أحدهم هذه صارت منطقة إسلامية ليس لديكم مكان فيها، ويمكننا قتلكم كلكم أو عليكم الخضوع لشروطنا وهي دفع جزية بالدولار مقدارها 450 دولاراً أو اعتناق الإسلام أو الموت أو الخروج من المنطقة»، واصفاً شعب الموصل ب «الخائن لأن هناك جماعات احتضنت داعش». وسأل: «يقولون ابقوا في أرضكم، ولكن لو دفعنا الجزية فكيف سنعيش بينهم فهم حتماً سيقتلوننا، تسأل الناس لماذا لم نقاتل بالسلاح، نحن لا نحمل السلاح لأن الحكومة لا تسمح لنا». وعن علاقة الحكومة العراقية بهم، يقول: «جماعة نوري المالكي فقط تجلس على الكراسي ولا أحد يدعم المسيحيين. لم تتمكن الحكومة من الدفاع عنا لأنها ليس بمقدورها أصلاً الدفاع عن نفسها وهي تحمي أطراف بغداد، والموصل يتعارك عليها داعش والبيشمركة». ويتحسّر سمير على «أيام صدام حسين، فالغزو الأميركي الذى سعى إلى إعادة الشيعة إلى حكم العراق، أشعل نار الانقسام مرة أخرى داخل نفوس العراقيين، خصوصاً بين السنّة والشيعة، وكان المسيحيون العراقيون ضحية تبادل إطلاق النار والمشاكل بينهم. يمنع علينا الدخول إلى بغداد أو أي منطقة أخرى». ويتحدّث كيف «فجروا كنيسة الروح القدس في حي الآخاء في نينوى التي كنا نسميها السفينة لأنها كانت كبيرة جداً، وأزالو الصليب ورفعوا راية «داعش» عليها، وكنيسة ما غورغيس في حي العربي، وجامع النبي يوسف الذي كان أصلاً كنيسة النبي يونس، ودير مار بهنام الذي بات مقراً لهم وطردوا الرهبان والراهبات الذين لا نعرف عنهم شيئاً، فكل شخص تدبّر أمره ولا أستطيع حتى أن أعرف مصير أحد من أقربائي». «داعش يقتلع بذلك تاريخاً عظيماً يتجاوز عمره 2000 عام. وأولى الكنائس المسيحية نشأت هنا، جذور الآشوريين في العراق هي قبل الميلاد بآلاف السنوات»، بهذه الكلمات تصف يونية معنى «المسيحي الأصيل». يونية التي تطلق على أولادها الثلاثة أسماء: ملكة الشمس «أمتة» وملكة الآشوريين «ديانا» والملكة «إيلانة»، شددت على أن «المسيحي الأصيل هو الذي يعترف بديانته ومنطقته ومبادئه ولا يتخلى عنها». المسيحي الأصيل لملمت يونية ما تيسّر أمامها من ثياب وأوراق وأسرعت إلى مركز تجديد الجوازات قبل ساعات من قصفه وانتقلت وزوجها وأولادها إلى أربيل حيث ابتاعوا الحقائب والثياب ووصلوا إلى لبنان قبل 20 يوماً. رفضت يونية أن تلبس بناتها اللباس الأسود وأن تعتنق الإسلام، بعدما طرقت بابها نساء أمرنهن بارتداء اللباس الأسود واعتناق الإسلام و «إلا سيقوم المسلحون بخطف أولادك». وتقول: «إنهن من أهل الموصل وحاضنات ل «داعش»، قلن لي لديك ثلاجة مليئة بالأموال وأقرباؤك في أميركا، ارحلوا إلى أميركا». يقاطعها زوجها جوني (عامل باطون) ويقول: «كيف عرف المسلحون أننا مسيحيون وكتبوا على منازلنا حرف «ن» وأن أقرباءنا في أميركا». مسكن جوني وعائلته الذي لا تتجاوز مساحته ال50 متراً يفتقر إلى أبسط مقومات الراحة ويدفع مواطنان لبنانيان يدعيان جورج وبيار إيجار الشقة 700 دولار، ويقول إن «على رغم الفقر الذي نعانيه نفضّل الأمان». «لا أريد العودة إلى بلدي... أفضل الموت هنا على رغم فقري»، تنساب الكلمات مخلوطة بألم خليل (من الحمدانية) الذي أتى إلى بيروت في 1 تموز. ويروي تفاصيل مجيئه المأسوي إلى لبنان بعد أن جرده «داعش» من سيارته ولم يترك له سوى الملابس، ويقول: «بعد أن فقدت ابنتي البالغة من العمر 7 سنوات والتي كانت تعاني من فشل في الكلى بنسبة 60 في المئة فضّلت المجيء مع عائلتي المؤلفة من 5 أولاد إلى لبنان، لكي لا أخسرهم أيضاً ولأعالج ابنتي لارا التي تعاني من المرض نفسه». ويضيف خليل الذي يسكن مع عائلته في منزل مستأجر في منطقة «الزعيترية» (شمال بيروت) أن «لا فرص عمل ولا مورد اقتصادياً يحميني من الغلاء المعيشي في بيروت التي تفوق أسعار السكن فيها وموادها الغذائية مقدرتي المالية بأضعاف وعلي دفع مبلغ 250 دولاراً كبدل سكن شهرياً». ويقول إن أخاه وأولاده بقوا في المنطقة ويحمون قرة قوش إلى جانب قوات البيشمركة من المسلّحين. لم يبق خليل في أربيل لأنه لا يريد العيش في خيم ولا يريد العودة إلى الحمدانية لأنه يخاف من أي هجوم مفاجئ ل «داعش» على رغم سيطرة قوات البيشمركة على البلدة. ويقول: «إذا انسحبت قوات البيشمركة، ستُباد الحمدانية - قرة قوش وسيحول المسلحون مدينتا جحيماً». ويقول خادم رعية مار جرجس للطائفة الآشورية في سد البوشرية الأب جورج يوحنا: «وجهنا العائلات التي لجأت إلينا إلى مؤسسات عدة ككاريتاس أو الأممالمتحدة». ويضيف: «اتجهنا بداية للمباردات الفردية لأن منظمة الأممالمتحدة تعطي مواعيد بعد فترة وحتى مساعداتها ليست بالمقدار الكافي». ويقول إن «لا إحصاء دقيقاً للعائلات التي وصلت، ولكن هناك عائلات لا نعرف عناوينها بعد ونحاول الاتصال بها لمعرفة حاجاتها»، واصفاً حال «المسيحيين بأنهم قلعوا من جذورهم فالمسيحي من العراق موجود من عمر المسيح في العراق». إلا أن الخادم في رعية الراهب بثيون وهيئة الدعم للاجئين السوريين والعراقيين في منطقة الحدث الأب سرغون زومايا لفت إلى أن «حوالى 10 عائلات عراقية وصلت إلى لبنان وصار الوجع أكبر علينا بعدما تهجر المسيحيون الآشوريون من سورية، وواجهنا صعوبات لتلبية حاجات النازحين السوريين إلى لبنان والذي يساوي عددهم حولى 1200 عائلة مسيحية». ويقول: «سمعنا أن فرنسا تفتح أبوابها للاجئين العراقيين من طريق الأممالمتحدة في لبنان، ومستعدة لاستقبال كل العائلات المهجرة قسراً من العراق وسنتابع الموضوع».