منذ الأيام الأولى لسينما لوميير بدأ إنتاج الأفلام القصيرة في مصر. صحيح أن الاهتمام بها لم يكن يعادل أبداً الاهتمام بالفيلم الطويل، فلم يتم استثمارها وتحويلها إلى صناعة مُربحة من خلال توزيعها وتسويقها كما هو الحال مع الوثائقي والروائي الطويل، وصحيح أن المنتج الخاص لم يغامر وينتجها إلا في حالات نادرة، مثلما فعل المنتجان جمال الليثي ورمسيس نجيب، أو كما في تجربة الأخوين لاما. ولكن على رغم ذلك،كان للفيلم القصير نصيب من التوزيع في دور العرض السينمائي في مصر. ومنذ عام 1925 ظهر اهتمام طلعت حرب بالأفلام السينمائية القصيرة وجعلها بمثابة اختبار لقدرات المخرجين الجدد قبل أن يخوضوا تجاربهم الروائية الطويلة، ومنهم المخرج محمد كريم، وهو الأمر الذي تكرر مع مخرجين آخرين على مدار تاريخ السينما المصرية. كذلك في عام 1957، عندما امتنع أصحاب دور السينما عن عرضها قبل الأفلام الطويلة تم استصدار قرار جمهوري يقضي بإرغام أصحاب دور العرض على قبول عرض الأفلام القصيرة العربية التي تقدمها مصلحة الفنون، وهو الذي الأمر الذي استمر لسنوات، لكنه اختفى تماماً في عصرنا الحالي، هذا في الوقت الذي تخصص فيه مهرجانات دولية بأكملها لأجل الفيلم القصير في دول أوروبية. أما في مصر، ففي السنوات القليلة الأخيرة اقتصر عرض الأفلام القصيرة على التظاهرات الثقافية، والمراكز السينمائية، وأسابيع الأفلام وبعض المهرجانات السينمائية حديثة الولادة، خصوصاً في ظل ثورة الديجيتال وتزايد الإنتاج، سواء كان مستقلاً أو أنتج بمساهمات من صناديق الدعم العربية والأجنبية، أو تلك الأفلام التي نالت دعم من إحدى مؤسسات الدولة، ناهيك عن بعض الفرص التي قد تتاح لعرض فيلم قصير من هنا أو آخر من هناك على شاشة إحدى القنوات التلفزيونية المحلية والإقليمية. ولكن منذ أيام لاحت في الأفق بادرة أمل جديدة، إذ نجح الناقد السينمائي أحمد شوقي في إقناع المسؤولين بتشغيل قاعة سينما الهناجر -الموجودة بأرض دار الأوبرا المصرية والشهيرة بأنها ملتقى تجمعات كثير من الشباب والمثقفين- وتحويلها إلى دار عرض تعمل على مدار العام بدءاً من شهر سبتمبر/ أيلول المقبل، حيث تُخصص لعرض الأفلام المصرية التي لا تُعرض في القاعات التجارية (قصير- تسجيلي- تحريك- تجريبي)، على أن يحصل منتج الفيلم على نسبة من إيراداته. مهرجان الجيزة الأول على صعيد آخر، شهدت مصر اهتماماً ملحوظاً نسبياً، بإقامة أكثر من تظاهرة سينمائية -أُطلق عليها تجاوزاً مهرجان الأفلام القصيرة- في عدد من المحافظات، منها رأس البر بدمياط، ونجع حمادي، ومؤخراً أقيمت فعاليات «مهرجان الجيزة الأول للأفلام القصيرة» برئاسة الناقدة والمونتيرة صفاء الليثي. جاءت هذه الدورة تحت عنوان «مصر المستقبل بين ثورتين». وكان منظمو المهرجان قد أعلنوا في وقت سابق أن الدورة مهداة للمخرج محمد خان، لأنه «أحد أساتذة الأفلام القصيرة في جيل الثمانينيات»، لكنهم عادوا وأهدوها للمخرج علي بدرخان ليعرضوا فيلمه التسجيلي «عم عباس المخترع» ويتم تكريمه تقديراً لإسهاماته الفنية كمخرج، ولدوره كأستاذ بمعهد السينما ساهم في تنشئة أجيال. الهدف من المهرجان –وفق منظميه- «اكتشاف المواهب السينمائية الشابة» و «دعم فكرة تقديم الأعمال الفنية بتكاليف قليلة وبجودة عالية». وقد اعتبره بدرخان «مهرجاناً خاصاً ومميزاً وشعبياً يُقدم لكل الناس»، مؤكداً على «دور الثقافة الجماهيرية في هذه المرحلة من إعداد للمواطن المصري، حيث أنها أداة التفاعل مع الناس من خلال أنشطتها المختلفة والتي تستطيع من خلالها تعظيم قيمة العمل ودوره». تضمن المهرجان عرض 14 فيلماً روائياً هي: «هتفرج»، و«ملكوت»، و«مجرد كلمة»، و«ماريونيت»، و«شاي بالنعاع»، و«تشاتينج»، و«جاليرى»، و«بياع الغرام»، و«بوكيه ورد»، و«أنت يا حمار»، و«إن عاش»، و«العائلة، و«اللعنة»، و«بوب كورن»... إلى جانب 9 أفلام تسجيلية هي: «أمل دنقل» و«مغردون خارج السرب» و«أونى»، و«حلوان أنا»، و«فريسكا»، و«أربع حيطان»، و«ستر الحياة»، و«.. وابتدا المشوار»، وأخيرا فيلم «رغيف العيش والحرية» للمخرج طارق الزرقانى والذي حصل على المركز الأول للأفلام التسجيلية. وفي مسابقة أفلام التحريك اشتركت ثمانية أعمال هي: «مكان واحد»، و«مفاتيح»، و«زمبلك»، و«زبرجد»، و«بتنجان»، و«الغابة»، و«الطريق»، و«أُولالاه» الذي حصل على الجائزة الأولى. أما فيلم «تشاتينج» للمخرج أحمد توفيق، فحصل على المركز الأول للأفلام الروائية. ويدور الموضوع حول شاب ناجح في عمله لكنه غير سعيد في حياته الباردة الخالية من العواطف والأصدقاء، ثم يرصد كيف تتبدل حياته إلى النقيض وتدب فيها الحيوية والبهجة بعد تعرفه إلى «سارة» أو «نحمده» من خلال غرفة الدردشة على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك. حلوان.. أنا ومن الأفلام اللافتة في الدورة شريط «حلوان.. أنا» للمخرج محمد عادل، والحاصل على جائزة لجنة التحكيم الخاصة في مسابقة الفيلم التسجيلي، وهو إنتاج مصري/ فرنسي مشترك، وكان نِتاج ورشة عمل L'histoire Du Jour التي نظمتها جمعية focus الفرنسية لمدة ستة أشهر بِمَدينتي القاهرة وبُورسعيد، وذلك للمساهمة في تأهيل شَباب مصريين على كيفية كِتابة أفلام وثائقية وإخراجها، بالتعاون مع المركز الثقافي الفرنسي والجَمعية الثقافية الفرنسية. ويحكي الفيلم عن حلوان إحدى المُدن المصرية الشهيرة والتي كشفت السنوات التي أعقبت أحداث 25 يناير 2011 أنها صارت معقلاً للإخوان ولكثير من التيارات الدينية المتشددة، وذلك بعد أن كانت مَدينة الباشوات والطبقة الأرستقراطية. ينتمي الفيلم إلى أفلام السيرة الذاتية. حيث يحكي المخرج فيه عن مشاعره المزدوجة والمتناقضة إزاء تلك المدينة وعلاقة الحب والكراهية التي تجمعه بها، وعن ظروف نشأته وعلاقة كل من أمه وأبيه وأقاربه بها. وهو أثناء ذلك يمزج بين الخاص والعام، بين ذكرياته وحكايته الذاتية المعجونة بطعم تلك المدينة ورائحتها وتفاصيلها، فتظهر المقارنة جلية بين الحاضر الرابض بثقله على الروح والجسد، وبين الماضي الجميل القادم من أعماق التاريخ، ومن حكايات المسنين، ومن الصور العتيقة لتلك المدينة البهية، كاشفاً عن التحولات والتغيرات التي أصابتها في مقتل، وكأنما أصابها السرطان ودمر خلاياها فتحولت إلى بقعة مشوهة أقرب ما تكون إلى الخرابة، خصوصاً في ظل سيطرة البائعين وسائقي الميكروباص ومختلف شرائح الطبقة الشعبية. وعلى رغم أي تحفظات قد تؤخذ على الفيلم، خصوصاً في ما يتعلق بدقة بعض الجمل السردية على لسان الراوي والتكرار بين حين وآخر، فإنه يجعل من حلوان رمزاً للتدهور الذي أصاب مصر بأكملها، كما أنه يتميز بوجود معادل بصري جيد يشي بموهبة المخرج، ويلفت الأنظار إلى مدينة يمكن أن تصير موضوعاً خصباً لعشرات من الأفلام الوثائقية.