باحترافية كبيرة وبكثير من التدقيق في التفاصيل، عُرِض في موسم الدراما الرمضانية مسلسل «دهشة» من إخراج شادي الفخراني، وتأليف عبد الرحيم كمال، وبطولة يحيى الفخراني، فتحي عبد الوهاب، نبيل الحلفاوي، يسرا اللوزي، ياسر جلال، وحنان مطاوع. المسلسل المأخوذ عن التراجيديا المسرحية «الملك لير» لوليام شكسبير، أسرت الفخراني منذ فترة، إذ قدمها قبل سنوات كمسرحية من إخراج أحمد عبد الحليم، ثم ها هو يعيد تقديمها، بتنويعة مختلفة، منتقلاً من المسرح إلى الدراما، ليقدم العمل في زي جنوبي صعيدي آسر، بالاتكاء على أجواء مصرية صعيدية، اجتهد الفخراني وكل فريق العمل، وعلى رأسهم السيناريست عبد الرحيم كمال والمخرج شادي الفخراني، في الإخلاص لها وتقديمها بشكل صادق وفنّي في آن. المسرحية العالمية المكتوبة في القرن السابع عشر، تم معالجتها باحترافية بالغة، لتناسب الجنوب المصري، من دون السقوط في الكليشيهات المعتادة لدراما الصعيد، بدءاً من الاستعانة بمدققين لتصحيح وضبط اللهجة، مروراً بالضبط المحكم للأزياء على يد المصممة شيماء عيسى، ثم اختيار أماكن التصوير، حيث بدت قرية «دهشة» التي يعلن القائمون على المسلسل في بداية الحلقة الأولى، أنها غير موجودة على الخريطة المصرية، بدت تلك القرية حقيقية جداً، نائية ومعزولة وبدائية إلى حد كبير... بدت كواحة محاطة بالجبال... وصولاً إلى الأداء فائق الجمال والبراعة الذي قدمه الممثلون، وعلى رأسهم المخضرم يحيى الفخراني. كما النص الأصلي، يعمد الباسل حمد الباشا (يحيى الفخراني) إلى انتزاع الحب والتقدير من بناته، كنوع من التعويض عن حرمانه من إنجاب الذكور. تغدق الأختان الكبيرتان نوال (سماح السعيد) ورابحة (حنان مطاوع) كلمات الحب على والديهما، لتنالا نصيبهما من ثروته، بينما تمتنع الأخت الصغرى نعمة (يسرا اللوزي) عن إبرام صفقة الحب الشفهي مقابل الثروة. ومن هذه النقطة تتشعب الدراما في العمل، بدهاء فني شديد يشتغل المؤلف على تحويل كل شخصية في العمل إلى حكاية مستقلة: فسَكَن حمد الباشا، الأخت الشقيقة للباسل، تعاني من مطاردات شبح زوجها الراحل، في بيتها القابع عند تخوم مقبرة القرية، أما الإخوة غير الأشقاء، فيعيش كل منهم قصة مختلفة. علاّم الباشا، يستقبل زائراً من الماضي: راضي (فتحي عبد الوهاب) ابن علام من نزوة عابرة، حيث يعمل هذا الابن على الانتقام من الأب الذي تسبب في وصمه بصفة ستلازمه مدى الحياة (ابن حرام). والأخ الثاني (سعيد طرابيك)، يتحمل هم ابنه الذي تزوج نعمة الباسل الخارجة من جنة أبيها الغاضب. في حين توفي الأخ الأصغر أبو ضيف (ناصر سيف) وترك أسرته غارقة في الفقر، حتى أن أرملته تضطر لبيع ملابسه لتجد ما تسد به رمق صغارها... وبالإضافة لتلك الخطوط الدرامية المتشابكة، يبتدع المؤلف هنا شخصية حكّاء المقهى، أو مروج الإشاعات، الذي يتناول أطراف أخبار الباسل ثم يعيد صياغتها وبثها إلى رفقاء المقهى، على هيئات نكات وأساطير وقصص قليل منها منطقي ومعظمها يشارف الهذيان، ويساهم حكّاء المقهى في كسر الإيقاع المشدود، إذ يتخلل الحلقات والمشاهد ليضفي على العمل نوعاً من خفّة الدم والمرح. بعد أن يكتب الباسل حمد الباشا ثروته مناصفة بين ابنتيه الكبيرتين، ويكتفي بهما كتعويض عن ابنته الصغرى العاصية، يأخذ زوجا الابنتين في مباشرة مصالح زوجتيهما، وبمرور الوقت يقويان وتنبت لهما أنياب وأظافر، في مقابل الباسل الآخذ في التدهور والشيخوخة، والممعن في الهزيمة منذ تلك اللحظة التي رفضت فيه صغيرته عرضه حول الثروة مقابل الحب الشفهي. فعامر (ياسر جلال) زوج ابنته الكبرى يصبح عمدة القرية، قبل أن يتمرّد بشكل كامل على سطوة الباسل ويحرض زوجته على أن تطرد أباها، وبالمثل يفعل أبو زيد (الممثل الفلسطيني ياسر المصري)، فيكيد لحميه ويغدر به أيضاً، وتالياً تتنصل زوجة أبي زيد من أبيها وتطرده، لينتهي الحال بسيد الجنوب المصري، الباسل حمد الباشا، مجنوناً شريداً في الفيافي والفلوات. تحديات التحدي الذي ربحه الفخراني وفريق العمل، تمثل في تقديم مسلسل ينافس مسلسل «الخواجة عبد القادر» المعروض في عام 2012، والذي أخرجه أيضاً شادي الفخراني وكذلك ألّفه عبد الرحيم كمال، حيث حظي المسلسل بمتابعة واسعة واهتمام نقدي، إلا أن هذا الفريق الموفق والمحترف، تجاوز في مسلسل «دهشة» كل التوقعات، بخاصة يحيى الفخراني، الذي أدى دور الرجل المفتون بعظمته، والذي يحتاج - على رغم كل ثرواته وسطوته - إلى لمسة رفق واعتراف بالإنجاز. وفي هذه المسافة بين جنون العظمة، والحاجة العاطفية، نصب الفخراني خيمته وأدهشنا، ويبدو ذلك جلياً في المشهد الذي يرفض فيه الباسل حقيقة تهرب ابنتيه منه بعد تجريده من ثروته، ربما سيظل ذلك المشهد هو الأقوى في تاريخ الممثل المصري الكبير. الرهان الآخر الذي وفق فريق العمل في تخطيه، هو إيجاد معادل مصري مقنع بل وممتع لمسرحية شكسبير، معادل يساهم في دخول العمل وشخصياته إلى بيوت المتلقي، من دون تعقيد، والفضل يعود هنا في المقام الأول لمؤلف العمل الذي صار متخصصاً بل وباحثاً في الشأن الصعيدي.