«هذا المساء، دعا الفرنسيون أنفسهم بشرف وكرامة إلى طاولة (مائدة) النخب. لن تكون الأمور أبداً كما كانت في السابق. وليس هذا سوى بداية معركة فرنسا». هذه العبارة التي انتخبناها طوعاً صدرت بنبرة انتصارية عن مارين لوبن مرشحة حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف، ليل الأحد الفائت. وتكاد وحدها أن تلخّص بطريقة مكثفة جملة التوظيفات والرهانات والتطلعات العاطفية والرمزية للجموع التي اقترعت للوبن. ولكنْ قبل الخوض في دلالات الاقتراع وحمولته، فإنّ للنبرة الانتصارية ما يبررها. فقد حصلت مرشحة اليمين المتطرف، ابنة مؤسس «الجبهة الوطنية» وزعيمها، على نحو 18 في المئة من أصوات الناخبين الذين تدفقوا بكثافة ملحوظة إلى صناديق الاقتراع. حصدت لوبن ستة ملايين ونصف مليون صوت، وهذه النتيجة غير مسبوقة في تاريخ هذا الحزب منذ تأسيسه عام 1972، حتى عندما وجد والدها نفسه في الدورة الثانية في مواجهة جاك شيراك عام 2002. كل الأنظار والتعليقات انصبت وستواصل انصبابها حتى الدورة الثانية والنهائية الأحد المقبل، على النتيجة هذه المسببة الكثير من القلق والصداع، خصوصاً في أوساط اليمين التقليدي والوسط من دون أن يقتصر عليها. فالنتيجة هذه هي الوجه الأبرز للحدث الانتخابي. والحق أنّ حلول لوبن في المرتبة الثالثة ليس مفاجأة كبيرة وإن خالف بعض الشيء توقعات هيئات استطلاع الرأي التي رجحت حلول مرشح اليسار غير الاشتراكي، جان لوك ميلانشون، في هذه المرتبة. صحيح أن لوبن نجحت في تدوير زوايا خطاب والدها وتفادت زلات لسانه وبلاغته الاستعراضية، كما استفادت من كونها امرأة لاجتذاب النساء وتخفيف الطابع الذكوري لحزبها، ما أتاح لها مخاطبة أوساط محافظة في الأرياف والبيئات المدينية المستحدثة والناشئة حديثاً. لكنّ عدّة الشغل بقيت عموماً ذاتها: الانكفاء على بيت الأمة الفرنسية لحمايته من خطرين، داخلي على الهوية الوطنية يمثله المهاجرون الأجانب وفي مقدمهم المسلمون المقيمون على تقاليد في الملبس والمأكل والعيش، تجعلهم أشبه بغزاة يجتاحون نمط الحياة الفرنسية وقيمها المتوارثة، وخطر خارجي تحمله العولمة الاقتصادية والمالية ومتطلبات الثبات داخل الاتحاد الأوروبي، على خلفية الأزمة الاقتصادية التي تعصف بأوروبا المقبلة على مزيد من التقشف والبطالة. يلقى الخطاب الشعبوي والكاره للأجانب عموماً، وللمسلمين خصوصاً بعد تذويب تنوعهم الكبير في هوية جوهرية اثنية وغير دينية بالضرورة، صدى لدى فئات اجتماعية تشعر بالضياع وبفقدان القدرة على التحكم بمصيرها، وبتردي شروط حياتها، في مقابل نخب تتمتع بمشهدية اصطفائية فاقعة. ويحض هذا على البحث عن كبش فداء والتطلع إلى وصفات خلاصية يقوم الحزب المتطرف بالنفخ فيها، وفي صور الخوف والتخويف التي على حماة الأمة والقوم تبديدها. ازداد عدد ناخبي اليمين المتطرف أكثر من مليونين قياساً إلى انتخابات 2007، لكن الزيادة لا تشير إلى تبدل نوعي. فالمعطيات السوسيولوجية المتعلقة بخريطة المقترعين لا تحمل جديداً. ففي المدن الكبرى لم تتجاوز نسبتهم سبعة في المئة باستثناء نيس وطولون المتوسطيتين. والبيئة الاجتماعية للناخبين هي بيئة صغار الحرفيين والمستخدمين والأرياف التي يعاني سكانها تراجع الخدمات العامة وتعاظم الشعور بالإهمال واللامبالاة حيالهم. حتى بيئة العمال التي بات حزب «الجبهة الوطنية» الأكثر حضوراً فيها (بلغت نسبتهم 35 في المئة وفق التصنيف المهني لناخبي اليمين المتطرف)، هي بيئة تدهور عمالي ما دامت تطاول مناطق صناعية سابقة وشبه مهجورة بعدما أقفلت المصانع أو انتقلت إلى بلدان أخرى، بمقتضى الربحية المعولمة والتخفف من الكلفة الاجتماعية للعمل. إلى ذلك، يبقى المستوى التعليمي المتدني أحد أبرز المؤشرات إلى قاعدة لوبن الانتخابية. فكلما انخفض مستوى التحصيل الدراسي ازدادت حظوظ التصويت لمصلحتها. والحد الفاصل، ها هنا، هو البكالوريا. فنسبة الناخبين غير الحائزين على الشهادة الثانوية تفوق الثلاثين في المئة، وهي أقل من 15 لدى الحائزين عليها و7 لدى حملة شهادات عليا. وهذا يفسر تزايد نفوذ «الجبهة الوطنية» في أوساط عمالية مسكونة بالحنين إلى حقبة صناعية، رمتها إلى الخلف سياسات اقتصادية ما بعد صناعية دشنها ريغان وثاتشر وتبعهما معظم أوروبا بمقتضى التنافسية والربحية الأعلى للخدمات والمضاربات المالية والتكنولوجيا العالية. في ما يخص الفئات العمرية، حصلت لوبن على نسبة ملحوظة لدى الشباب بين 18 و24 سنة. لكن المستوى التعليمي لعب، هنا أيضاً، دوراً بارزاً. فهي استقطبت من هذه الفئة الأقل تعليماً والأكثر تعرضاً للنبذ خارج سوق العمل. إجراء الانتخابات الرئاسية على دورتين أنشأ تقليداً انتخابياً يقوم - بعد الدورة الأولى التي يختبر فيها كل مرشح وزنه وجاذبية برنامجه - على احتساب المخزون الاحتياطي للمرشحين الاثنين المتأهلين للدورة الثانية. وقد بدأ السباق المحموم بين الرئيس المنتهية ولايته نيكولاي ساركوزي وبين خصمه الاشتراكي فرنسوا هولاند. خزان لوبن كبير وهناك شبه إجماع على اعتباره رسالة احتجاج على أوضاع صعبة ومأزومة. لكنه موضوع في قلب المشهد الانتخابي، والسياسي استطراداً، مثل عقدة ثعابين. التعامل المختلف معه هو أيضاً صراع على تأويل الاحتجاج ودلالاته، بالتالي على طريقة مخاطبة الثعابين. حتى الآن تبدو حظوظ هولاند أكبر من حظوظ ساركوزي، إلا إذا حصلت أعجوبة. ويبدو أن الأخير لن يتوانى عن استخدام كل الوسائل الممكنة لتحقيق الأعجوبة. فهو بدأ بمغازلة ناخبي اليمين المتطرف بديماغوجية فاقعة لشراء عواطفهم. على ساركوزي أن يحصد كل أصوات لوبن ويمين الوسط كي يفوز، وهذا صعب جداً. فبين حزبه و»الجبهة الوطنية» ليلة سكاكين طويلة. وقد بنى كلاهما استراتيجيته على تجفيف الآخر واحتوائه. وهذا هو الجديد في مسعى اليمين المتطرف إلى تطبيع تربعه في قلب المشهد السياسي، خصوصاً في الانتخابات التشريعية لحزيران (يونيو) المقبل، إذ سيكون لحزب لوبن موقع لا يستهان به. فهي اعتمدت على استراتيجية برونو ميغريه، أبرز المنشقين عن أبيها، والساعي إلى نزع الصفة الشيطانية عن الحزب الشعبوي ومد جسور مع اليمين التقليدي وصولاً إلى عقد تحالفات. في المقابل، يعتمد ساركوزي على تصور وضعه مستشاره الخاص باتريك بويسون الذي خرج قبل 20 سنة من اليمين المتطرف، وفكرته الرئيسية أن تقليص وزن «الجبهة» لا يكون عبر محاربته مباشرة بل عبر النهل من خطابه وإيديولوجيته. من يأكل الآخر. سيخسر ساركوزي وستندلع حرب بين الورثة، فيما تضحك مارين كساحرة القلعة المهجورة.