يوم الاثنين المقبل (20 الجاري) يكون لبنان قد قطع شهراً كاملاً بانتظار الولادة العسيرة لحكومة زعيم «تيار المستقبل» سعد الحريري. ويرى عدد كبير من نواب المجلس الجديد أن انقضاء شهر كامل على قرار التكليف، يمكن أن يزيد من فرص التأخير، خصوصاً أن جلسات الحوار الوطني لم تنجح في تجسير الخلافات العميقة بين زعماء المعارضة وجماعة 14 آذار. لذلك استعيض عن دورات الحوار والمصارحة بفتح حوار علني كالذي تم بين رئيس «اللقاء الديموقراطي» النائب وليد جنبلاط وخصمه الدرزي رئيس «تيار التوحيد» الوزير السابق وئام وهاب. وأوضح وهاب عقب الاجتماع بأن خلافه مع الأستاذ جنبلاط كان خلافاً سياسياً، وأن المصالحة بينهما حصلت بعدما أعاد جنبلاط «تموضعه» في أمور عدة، بدءاً من موقفه تجاه سورية... وانتهاء بإعادة دعمه للمقاومة. واللافت في هذا السياق أن المنتصر انتخابياً هو الذي يبادر الى التودد والانفتاح على منافسه المهزوم لعله يساعده على الوصول الى دمشق. والسبب أن الفوز بالغالبية البرلمانية في لبنان، لا يعني مطلقاً أنه من السهل ترجمة هذا الفوز الى قوة سياسية مؤثرة. والدليل أن الشعار الذي أطلقه سعد الحريري «لبنان أولاً»، وجعله قاعدة انطلاق لمواصفات حكومة الاتحاد الوطني... هذا الشعار استبدلته المعارضة بشعار «لبنان آخراً». والسبب أن المصالحة السعودية - السورية، وما يترتب عنها من تأسيس لنظام اقليمي جديد، سوف تعيد مصر الى الكتلة الثلاثية التي ولدت في مؤتمر الاسكندرية. وقد توقع اللبنانيون مشاركة سورية في قمة عدم الانحياز التي عقدت في «شرم الشيخ» هذا الاسبوع، إلا أن غياب الرئيس بشار الأسد خيّب آمال المراهنين على نتائج هذا اللقاء. ويبدو أن طبخة المصالحة السورية - المصرية لم تنضج بعد لأن دمشق اشترطت أن تكون قطر جزءاً من التكتل الجديد. وحجتها أن اتفاق الدوحة الذي رعته قطر، ساعد على تصحيح الوضع المتردي عن طريق انتخاب الرئيس ميشال سليمان. بعض المنظّرين يراهن على الزيارة المتوقعة التي سيقوم بها العاهل السعودي الملك عبدالله بن عبدالعزيز لدمشق بعد انتهاء جولته في «ينبع» حيث وضع حجر الأساس ل32 مشروعاً صناعياً بكلفة ثمانية بلايين ريال ونصف البليون. ومع أن موعد الزيارة لم يعلن بعد، إلا أن التكهنات تحدده ما بين مطلع شهر آب (اغسطس) والعشرين منه، أي قبل حلول شهر رمضان المبارك الموافق يوم السبت 22 آب. ويقول الرئيس نبيه بري إن هذا التاريخ ليس نهائياً وحاسماً لأن السقف الزمني غير متوافر. والدليل على ذلك أن تقي الدين الصلح أمضى ثلاثة أشهر تقريباً قبل تأليف حكومته في عهد الرئيس سليمان فرنجية. السفراء الأجانب في بيروت الذين راهنوا على فوز المعارضة، يعتقدون بأن دمشق تفتعل المآزق المحرجة بواسطة نواب «حزب الله» وكتلة ميشال عون، من أجل احراج سعد الحريري ودفعه الى الاعتذار. لكنَّ المتتبعين للشأن السوري، يستبعدون هذا الافتراض لاقتناعهم بأن دمشق تعول كثيراً على مصالحة الطائفة السنية في لبنان، وعلى دور سعد الحريري في تعبيد الطريق باتجاه دمشق. وقد أعربت الحكومة السورية مراراً وتكراراً عن استيائها من الاتهامات التي وجهت إليها بشأن اغتيال الرئيس رفيق الحريري، خصوصاً بعدما أفرزت تلك الجريمة واقعين جديدين تجاهها: الأول تمثل بخروجها العسكري من لبنان. والثاني تمثل بخروج سنة لبنان من عروبة سورية. تماماً مثلما أخرجت عملية غزو العراق الشعب الكويتي من عروبة العراق وفلسطين. لهذا تعتقد غالبية الإعلاميين في دمشق أن وصف أحداث 7 أيار من قبل السيد حسن نصرالله ب «اليوم المجيد» ساهم بشكل مباشر في استنفار مشاعر السخط والغضب لدى الطائفة السنية المستهدفة. ومن المؤكد أن هذه المشاعر تدفقت في صناديق الاقتراع وقلبت ميزان التوقعات الانتخابية. من هنا اهتمام سورية بضرورة إزالة غيوم الكراهية والاختلاف، خصوصاً بعدما أعرب سعد الحريري عن رغبته في حصر موضوع اغتيال والده بالمحكمة الدولية والتعاطي مع مستقبله السياسي بروح التفهم والانفتاح. تغيب سورية وإيران وقطر عن قمة شرم الشيخ، أعطى الأزمة اللبنانية بعداً سياسياً خاصاً، كونها تفتقر الى مظلة عربية شرق - أوسطية تعينها على فك ارتباطاتها المحلية مع دمشق وطهران والدوحة. ومع أن موقف المقاطعة مرتبط بقرار مصر السماح لسفن اسرائيلية حربية بحق المرور في قناة السويس بهدف ضرب ايران، كما هو مرتبط بتصدع وحدة السلطة الفلسطينية بسبب اتهام فاروق القدومي للرئيس محمود عباس بتصفية ياسر عرفات بالتعاون مع شارون... فإن هذه العوامل مجتمعة شغلت مصر عن الانصراف الى المساهمة في حلحلة تعقيدات الأزمة السنية - الشيعية في لبنان. وكان المطلوب - حسب مصادر القاهرة - اعتراف مصر بحق سورية في المساهمة بتوطيد سلام مشترك مع لبنان، مقابل اعتراف سورية بحق مصر في ممارسة نفوذها على المعابر الحيوية في غزة. ويبدو أن هذه المقايضة قد تعثرت بسبب تخوف «حماس» من اطلاق سراح مروان البرغوثي، الأمر الذي يبدل التوازن بين «حماس» الخارج الممثلة بخالد مشعل و «حماس» الداخل الممثلة باسماعيل هنية. عدد كبير من نواب 14 آذار طالب سعد الحريري بضرورة الاسراع في تشكيل حكومة وحدة وطنية دونما اهتمام بالعوامل الخارجية التي تؤخر النشاط السياسي الداخلي. وفي رأيهم أن المبالغة في التخلي عن المواقف المحلية، تنزع عن لبنان صفة السيادة الوطنية وتجعله عرضة لكل تيارات المنطقة. كما تحرمه من الحق الدستوري الذي وصفه بأنه «وطن نهائي سيد حر مستقل لجميع أبنائه». ظهر التعريف الشرعي لمفهوم «السيادة الوطنية» خلال القرون الوسطى، وقد أعطى الدولة الحق الحصري كمصدر للصلاحيات، وللسيطرة المطلقة على المساحة المحددة، وعلى الشعب في داخلها. وقد أعطى هذا المفهوم مرجعية السيادة للدولة بحيث تتضمن صلاحياتها حق تطبيق القوانين في الداخل بطريقة تصل الى حد الاحتكار. بعد الحرب العالمية الثانية تبدل مصطلح السيادة الوطنية طبقاً لتطور المفاهيم والالتزامات المرتبطة بالقانون الدولي والمؤسسات المشتركة. وأفضل نموذج على هذا التبدل ما طرأ على واقع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. مثال ذلك أن الدولة العضو في الاتحاد تملك حق الاستقلال في القرارات المتعلقة بأمنها الداخلي، ولكنها ليست حرة بالنسبة لسياستها الاقتصادية أو الاجتماعية أو المالية. والسبب أن هذه السياسات تتحدد من قبل الجهاز المركزي عموماً. وهذا يعني أن الدولة تنازلت عن جزء من مقوماتها لصالح دول خارجية بعدما أسست نماذج تقاسم المصالح. على صعيد آخر، يصعب تحديد مفهوم السيادة حسب التعريف الكلاسيكي للكلمة. ذلك أن الموافقة على ممارسة القوانين الدولية، ومنها قانون الانتربول، يعتبر خضوعاً لمعايير فرضتها الأسرة الدولية. كما أن الانخراط في محاربة الإرهاب، يجعل من تدخل الولاياتالمتحدة في أمن باكستان وأفغانستان، أمراً مشروعاً. وهذا ما عبرت عنه «معاهدة الاخوة والتعاون والتنسيق» التي صدرت في 16 - 8 - 1993، ثم عين نصري الخوري أميناً عاماً للمجلس الأعلى السوري - اللبناني. وبما أنها صيغت بصورة الفرض من قبل دولة قوية، فإن عدداً من النواب يطالب بضرورة تعديل بنودها بحيث تخدم قراراتها لبنان أيضاً كما تخدم سورية. ويستدل من هذه القرارات أن شروطها الأساسية خاضعة للسيادة السورية المطلقة. بين المخارج العملية التي اقترحها الرئيس السابق أمين الجميل تحاشياً لمتاعب انتقاء ثلاثين وزيراً، كان مخرج تشكيل حكومة مؤلفة من 14 وزيراً، أي 7 مسيحيين و7 مسلمين. وربما أراد من هذا التوزيع تفادي الصعوبات التي أثارها رئيس تكتل الاصلاح والتغيير ميشال عون باعتماده النسبية في التوزيع. عندها يكون الحل باختيار ثلاثة موارنة من أصل سبعة مسيحيين هم: أمين الجميل وميشال عون وسمير جعجع. وربما اهتدى أمين الجميل الى هذا الحل من خلال تجربة الرئيس فؤاد شهاب الذي عهد الى رشيد كرامي تشكيل أولى حكومة في عهده (24 - 9 - 1958). ويقال إنه أخطأ في مراعاة التوازنات والحساسيات لأنه أبعد الشمعونيين عن الوزارة، وانتقى المسلمين من المعارضين المؤيدين لثورة 1958. وجاءت ردود الفعل بشكل ثورة مضادة دفع يوسف السودا ثمنها من سمعته عندما اعترضت «الكتائب» على توزيره وتوزير سواه ممن تصورت أن مشاركتهم تخل بالتوازن الطائفي - السياسي. وهكذا تراجع فؤاد شهاب أمام انتفاضة الموارنة، وقرر مع رشيد كرامي تشكيل حكومة مصغرة من أربعة ضمت: رشيد كرامي وحسين العويني وريمون اده وبيار الجميل. المقربون من سعد الحريري ينصحونه بالاعتذار إذا لم تسعفه سورية على تذليل العقبات، لأن الاعتذار هو أمضى سلاح يمكن أن يشهره ضد المعارضة. والسبب أن سورية تحتاج الى تعاون الحريري لإقناع الطائفة السنية بفكرة استعادة المكانة التي فقدتها عقب اغتيال والده رفيق الحريري. وإذا تعذر عليه اتخاذ مثل هذا القرار، فما عليه إلا أن يستشير العماد ميشال عون الذي شكل الوزارة الخامسة والسبعين في عهد أمين الجميل. وكانت مؤلفة من: العماد ميشال عون والعقيد عصام ابو جمرة واللواء محمود أبو ضرغم والعميد ادغار معلوف والعميد نبيل قريطم والعقيد لطفي جابر. فور صدور التشكيلة أعلن الوزراء المسلمون أبو ضرغم وقريطم وجابر اعتذارهم بحجة عدم استشارتهم. صبيحة اليوم التالي اكتشف العماد عون أن حكومته تفتقر الى العنصر الاسلامي المكمل. لذلك عقد مؤتمراً صحافياً قال فيه: «الطائف مرفوض. وكل من يدخل فيه لا يدخل الى الحياة بل يذهب الى جهنم. ومن أجل الحؤول دون تنفيذ الطائف، لن يستطيع أحد تأليف حكومة اتحاد وطني. ومن يريد الاشتراك في حكومة كهذه انما يرتكب جريمة أخرى». بعد مرور نحو 19 سنة على تلك الحكومة الجهيضة، يطالب العماد ميشال عون بضرورة تعديل الطائف من أجل استرداد صلاحيات رئيس الجمهورية الماروني وتجريد رئيس الحكومة السني من صلاحيات رسم سياسة الدولة وتنفيذها. ولعل العماد عون لم يتنبه الى أن شركاءه في «حزب الله» قد سبقوه الى هذا التعديل عندما ألغوا عملياً صلاحيات رئيس الدولة ورئيس الوزراء في اتخاذ أي قرار سياسي أو أمني لا يوافقون عليه. * كاتب وصحافي لبناني