حسمت أكثرية القنوات التلفزيونية الإسكندينافية خيارها، بعد جدال ونقاشات تعلقت بحق مشاهديها في معرفة الحقيقة، على رغم قساوتها وما يمكن أن تثيره من آلام في نفوس أقارب الضحايا والناس العاديين، وقررت نقل وقائع محكمة الإرهابي أندرش بريفيك مرتكب مجزرة جزيرة أوتايا النروجية ومفجر مبنى الحكومة في العاصمة أوسلو والتي راح ضحيتها عشرات الأبرياء، غالبيتهم من الشباب. بعض المحطات التلفزيونية مثل السويدية، نقل الوقائع مع تغطية مكثفة لمراسليها من قاعة المحكمة، إضافة إلى استضافة خبراء قانونيين ومحللين نفسيين داخل استوديواتها. وعلى مستوى ثانٍ أَعَد الكثير من تلك المحطات التقارير الإخبارية والريبورتاجات الصحافية اليومية التي امتاز، معظمها، بطابع آني وسريع. وعلى الخط ذاته تزاحمت قنوات تلفزيونية عالمية لنيل حصتها من حدث هز مشاعر الناس في كل مكان، لفظاعته وعلاقته المباشرة بالتطرف اليميني الأوروبي، من بين تلك المحطات كانت «بي بي سي» البريطانية التي أنجزت وثائقياً بعنوان «مجزرة النروج» عرضه التلفزيون السويدي تزامناً مع استمرار انعقاد جلسات المحكمة. لماذا يحدث هذا؟ يطرح الوثائقي سؤالاً ربما خطر على بال كثر من النروجيين بعد الكارثة: لماذا حدث هذا؟ ولأن الحدث لم يمض عليه عام كامل حاول قدر الإمكان التوصل إلى إجابات بما توافر لديه من تسجيلات أجهزة الشرطة ولقاءات مع شخصيات لها صلة مباشرة بالمجزرة ومن شهادات الناجين منها وأقربائهم. لقد هزت جريمة الثاني والعشرين من تموز (يوليو) العام الفائت ضمير أمة لم تشهد مثلها منذ الحرب العالمية الثانية، ولهذا كانت «الصدمة»، عنواناً لرد الفعل الشعبي عليها أول الأمر. ومع الوقت صار التفكير بها أعمق وراحت الأسئلة تكبر وتتسع لتصل إلى البحث في الأسباب الحقيقة التي تدفع رجلاً نرويجياً «أبيض» ليقتل بدم بارد وتخطيط مسبق نرويجيين مثله؟ ولماذا يحمل في داخله كل هذا الحقد على الإسلام والمهاجرين، وعلى السياسيين المنادين بالتعدد الثقافي والإثني في مجتمع يفخر بديموقراطيته؟ للتعرف إلى أفكار المتطرف بريفيك، رجعت «بي بي سي» إلى ما كتبه في بياناته على صفحات الإنترنت ومذكراته الشخصية وأخذت مقتطفات منها وربطتها بالحدث، وبذلك قدمت تصوراً تمهيدياً لأسباب فعلته الرهيبة. فهو، كان مؤمناً كما تشير بياناته بالفكر اليميني المتطرف، وكان من أكثر المتحمسين لطرد المسلمين من أوروبا، إذ وجد فيهم خطراً عليها منذ مراهقته. «منذ كنت في السادسة عشرة من عمري عرفت أن المسلمين يسيطرون على وسط أوسلو وشرقها. إنهم يضطهدون النروجيين ويضربونهم، سأحطم الأحزاب التي تدعو إلى التعدد الثقافي وسيكون هذا هدفي مدى الحياة». في المقابل تكشف شهادات المهاجرين وجود أحكام مسبقة ضدهم وضد المسلمين منهم، فكثير من الناس ذهب تفكيرهم قبل التعرف إلى الجاني الحقيقي إلى تنظيم «القاعدة» واعتقدوا بأنه المسؤول عن تفجيرات مقر الحكومة. لهذا خرجت وبعد ساعات قليلة مشاعر كراهية تمثلت في الاعتداء على بعض المارة من المهاجرين أو الصراخ في وجوههم «أخرجوا من هذا البلد!»، كما قال أحد ممثلي المجلس الإسلامي في النروج. بالمقابل ارتفعت أصوات طالبت المجتمع بالاعتراف بوجود تطرف آخر غير الإسلامي يعمل في الظل وغير مراقب كفاية، وعلى حد تعبير أحد الناشطين اليساريين النروجيين: «لنَعترف بأن من قَتَل شبابنا نرويجي منا، من الطبقة المتوسطة ومستواه التعليمي جيد، لقد ارتدت عليه دعايته فبدلاً من كراهية الأجانب صار الناس يكرهون المتطرفين اليمينيين وأيديولوجيتهم». دروس التجربة لم يهمل برنامج «مجزرة النروج» التفاصيل، بل سجل مشاعر الحزن التي سادت بين الناس وبين أصدقاء وأقارب الضحايا ومن بينهم شباب من أصل مهاجر كانوا في المعسكر لحظة وقوع المجزرة، فالمجرم لم يميز بين أجنبي ونرويجي ما دام يعمل في حزب يؤيد المهاجرين ولا يطالب بطردهم. من دروس التجربة، التي خصص لها الوثائقي حيزاً من وقته، أن المجتمع صار أكثر انفتاحاً على بقية المجاميع العرقية، والمشاعر الإنسانية التي عبر الناس فيها عن تضامنهم مع الضحايا بصرف النظر عن جنسيتهم. أما رئيس الوزراء ينس ستولتينبيري فلخصها بكلماته حين ركز على الخصوصية الفردية وتجنب الحكم الشامل على مجموعة بشرية بأكملها حين يرتكب فرد منها خطأ، فتدان بوزر فعلته: «ستبقى الخصوصية قائمة، وكل فرد يتحمل مسؤولية أفعاله، فأنا لا أتحمل مثلاً، جريمة بريفيك الشنيعة لأنه فقط نرويجي ومن أوسلو مثلي». في المقابل أحال نرويجيون أسباب كراهية الغرباء إلى سياسة الحكومة التي قسمت المدينة قسمين: واحد للفقراء والمهاجرين وآخر للأغنياء. إن سياسة العزل العرقي تُوَّلد مشاعر الكراهية وعلى المجتمع أن يساعد في حلها بروح عالية من التسامح وهذا درس مهم يجب أن نتعلمه جميعاً من «مجزرة النروج» إضافة إلى دروسها الأخرى».