ربما كان مشهد المقدم في الجيش الإسرائيلي شالوم إيزنر، وهو يضرب بعقب بندقيته متظاهر السلام الدنماركي ويوقعه أرضاً ثم يعتدي على خمسة آخرين من نشطاء السلام الأجانب والفلسطينيين في المكان نفسه، ربما كان مفاجئاً لمن شاهده في الدنمارك أو في مختلف دول العالم، لكنه لمن شاهده من فلسطينيين وإسرائيليين، كان مجرد استمرار لعنف متصاعد يمارسه الجنود الإسرائيليون بحق الفلسطينيين ومن يشاركهم من أجانب في تظاهراتهم ونشاطاتهم الاحتجاجية المناهضة للاحتلال الإسرائيلي. في إسرائيل، خرج سياسيون وعسكريون، بتصريحات يرفضون فيها هذا العنف ويستنكرونه. وفور ظهور صور ذلك المقدم رددوا ما سمعناه سابقاً: «هذه ليست من أخلاقيات الجيش الإسرائيلي». لكن الحقيقة، وكما رآها العديدون، أن السياسة الإسرائيلية في التعامل مع ملفات عنف سابقة وشكاوى مقدمة ضد جنود وضباط، التي لم تضع الخطوط الحمر أمام شالوم ايزنر وغيره من الضباط والجنود، لم تكن رادعاً لهذا الضابط أو غيره يمنعه من استخدام العنف، الذي وصل في حالات غير قليلة إلى حد القتل، وليس فقط للفلسطينيين، إذ أن راشيل خوري، الأميركية، قتلت على مرأى من الكاميرات قبل بضع سنوات. ومن اعتبر حادثة الاعتداء على المتظاهر الدنماركي حادثة فردية إنما أخطأ أو تجاهل حقيقة أن الضباط والجنود الذين تواجدوا في المنطقة نفسها لم يحركوا ساكناً بل وقفوا متفرجين على أعمال ايزنر. ومن تابع مشاهدة المقاطع المصورة بكاميرات فلسطينية، يكتشف كيف شارك آخرون من الجنود في تعنيف النشطاء الأجانب ومن رافقهم من فلسطينيين. فقد تصرفوا على نحو هستيري واستخدموا مختلف أساليب العنف، وظهر بعضهم وهم يدفعون بالنشطاء جانباً ويحملون الدراجات الهوائية التي تنقل بها النشطاء الأجانب ورموها بعيداً. والحقيقة الأخطر كشفها ايزنر بذاته عندما أطلق أول رد له قائلاً: «ربما كان من الخطأ المهني استعمال السلاح أمام عدسات التصوير». تعقيب ايزنر هذا يشي بأن كل ما قيل في أعقاب الحادثة صحيح. إن الضجة التي أعقبت الاعتداء على الدنماركي جاءت لأن الصور كشفت الاعتداء ولأن المعتدى عليه كان دنماركياً. وهو نقطة في بحر من الاعتداءات التي يمارسها الجنود والضباط بحق الفلسطينيين... بعيداً عن عدسات الكاميرا. حديث ايزنر عن خطأ استخدام الأسلحة أمام الكاميرا يؤكد من جديد أن الاعتداءات على الفلسطينيين تحظى بدعم غير مباشر من خلال تعامل المسؤولين والمؤسسات العسكرية والقضائية مع مرتكبي جرائم العنف هذه والتساهل معهم. والمعطيات المتوافرة لدى جمعيات حقوق إنسان وأخرى قضائية تشير إلى أن الغالبية العظمى من الملفات التي فتحت ضد الضباط والجنود أغلقت من دون أي عقاب، حتى في ملفات قتل فيها فلسطينيون. ومن هنا تتكثف الجهود لدى جمعيات ومؤسسات لكشف هذه الحقيقة والمطالبة بتغيير السياسة الإسرائيلية تجاه جرائم العنف ضد الفلسطينيين. رئيس أركان الجيش، بيني غانتس، استبق ردود الفعل على عنف جنوده بالترويج لسياسة جديدة في التعامل مع الضباط والجنود الذين ينفذون أعمال عنف كهذه. وحسم في قرار إبعاد ايزنر ومنعه من الحصول على ترقيات لمدة سنتين وأمر بفتح ملف تحقيق بالقضية. وفي محاولة منه لتحسين صورة جيشه أمام المجتمع الدولي، في أعقاب ما ألحقته مشاهد الاعتداء من إساءة لإسرائيل، أسرع غانتس إلى إعداد رسالة إلى كل جندي يحدد فيها ما يجوز وما لا يجوز من ممارسات في أثناء نشاطه العسكري في الأراضي الفلسطينية أو تجاه فعاليات ونشاطات يشارك فيها أجانب. ومن أبرز ما تضمنته الرسالة حديث غانتس صراحة عن خطوات تخفف من الأضرار التي ألحقتها صور الاعتداء على الناشط الدنماركي بإسرائيل في مختلف أنحاء العالم. وجاءت الرسالة بعد ما ارتفعت الأصوات الإسرائيلية التي تنتقد سياسة القيادتين السياسية والعسكرية في تعاملها في هذه القضايا. وهناك من تطوع لأن يقدم النصائح للجيش في كيفية التعامل. ايتان هابر، الذي شغل في السابق منصب مدير مكتب الرئيس الأسبق للحكومة الإسرائيلية، اسحق رابين، وصف المقدم ايزنر ب «الغبي». وهابر لم يدافع عن المتظاهرين ومن شارك في حملة «أهلاً بكم في فلسطين» الذين اعتبر نشاطهم عملاً استفزازياً لإسرائيل وجيشها، بل حرص على تقديم نصائح تهدف بالأساس إلى الحفاظ على سمعة الجيش الإسرائيلي في العالم. ورأى أن أول خطوة يتوجب تنفيذها، هي إرسال ايزنر فوراً إلى البيت بسبب غبائه. وقال هابر: «في وضع كهذا يتربص فيه الكثيرون للجيش الإسرائيلي وتشق كل صورة طريقها إلى استوديوات التلفزيون في العالم، من أقصاه إلى أقصاه، ينبغي أن تتوافر نسبة ذكاء متوسطة وما فوق لدى المرء كي يفهم بأن كل عمل شاذ من جانب ضابط من الجيش الإسرائيلي سيحظى بآلاف الأصداء. والضرر الذي سيلحق بسمعة وصورة دولة إسرائيل جسيم للغاية». ومن وجهة نظر هابر فان كل العالم «يتربص» بدولة إسرائيل ولا أحد يقدم لها التنازلات عبر ما اسماه «محكمة وسائل الإعلام». وهابر كغيره من الكثيرين في إسرائيل اعتبروا السياسة التي اتبعتها إسرائيل في مواجهة حملة «أهلاً بكم في فلسطين»، ليس فقط شجعت ايزنر وأمثاله على الاعتداء إنما ساهمت في شكل كبير في الإساءة إلى صورة إسرائيل في العالم. ورأى هابر أن متخذي القرار بالغوا في التعامل مع منظمي الحملة وكان أفضل رد هو تجاهلهم. ويقول: «عن كم تظاهرة سمعنا أو قرأنا في السنة الأخيرة؟ تقريباً ليس عن أي منها. وذلك لأنه لا ولم يحصل أي شيء. المتظاهرون يبحثون بالذات عن العناوين الرئيسة»، ويضيف: «حتى لو كان صحيحاً الخبر عن أن المتظاهرين اعتزموا خرق النظام في المطار، ما كان هناك أي سبب يدعو إلى الصخب المسبق الذي أبدته قوات الأمن». 200 ملف تحقيق و6 لوائح اتهام الاعتداء على الناشط الدنماركي فتح من جديد ملف الفلسطينيين ضحايا اعتداءات الجيش الإسرائيلي وتعامل المؤسسة العسكرية الذي يشجع هذه الاعتداءات. وبحسب معطيات «بتسيلم»، فقد فتح حتى نهاية العام الماضي 200 ملف تحقيق يتعلق باستخدام الجنود العنف والتنكيل بالفلسطينيين. ومن هذه الملفات لم تقدم سوى ست لوائح اتهام وأغلق 134 ملفاً فيما التحقيق مستمر في بقية الملفات. وبحسب التدابير العسكرية في الجيش فإن الشرطة العسكرية تبدأ التحقيق في الشكوى المقدمة ثم تقدم الاستنتاجات لتنظر فيها النيابة العامة العسكرية وبعد ذلك فقط يتم اتخاذ قرار إما بإجراء محاكمة جنائية في المحاكم العسكرية أو يقفل الملف أو يرفض. وبحسب توقعات المطلعين على الملفات فإن حادثة المقدم ايزنر ستنتهي كغالبية الملفات بالاكتفاء بحكم تأديبي. وتعكس تقارير جمعيات حقوق الإنسان وما تشمله من معطيات حول حوادث اعتداء على الفلسطينيين سياسة تعامل الشرطة العسكرية في شكاوى ضد ضباط وجنود استخدموا العنف والتساهل معهم، على عكس ما حاول إظهاره قياديون في الجيش في أعقاب الاعتداء على الناشط الدنماركي. وأبرز هذه الحالات: - قائد كتيبة في سلاح المدرعات يدعى دافيد كيمحي، التقطته عدسة الكاميرا وهو يضرب بخوذته متظاهراً فلسطينياً على بطنه وعلى رأسه. وقد بدأت الشرطة العسكرية التحقيق ولكن تقرر عدم تقديم لائحة اتهام ضده. وقدم إلى محاكمة تأديبية قررت تأخير ترقيته سنتين. وبعد مرور السنتين ترقى في وظيفته وهو اليوم رئيس قسم النظرية القتالية في شعبة العمليات. - إطلاق النار على رجلي ناشط يساري في أثناء تظاهرة تم خلالها قطع أجزاء من جدار الفصل. بعد سنة من الحادثة فقط ومع انتهاء تحقيق الشرطة العسكرية، قررت النيابة العامة العسكرية عدم محاكمة الجنود والقادة الذين شاركوا في إطلاق النار، في محاكم جنائية. وقد حوكم فقط قائد السرية آنذاك شاي كالبر محاكمة تأديبية، لكن تم ترفيع رتبته بعد ذلك ويعمل اليوم قائد كتيبة في لواء غولاني. - إطلاق قنبلة غاز، من مدى قصير، على بسام أبو رحمة خلال تظاهرة في بلعين احتجاجاً على إقامة جدار الفصل العنصري. الضحية توفي متأثراً بجروحه وهو في طريقه إلى المستشفى. بعد أكثر من سنة قررت النيابة العامة العسكرية التحقيق في الحادثة... وما زال التحقيق جارياً. - خلال الشهر الماضي هاجم كلب من وحدة «عوكتس» متظاهراً قرب القرية الفلسطينية كدوم. وما يزال التحقيق جاريا ، ولم يُفتح له حتى الآن ملف في الشرطة العسكرية. وقد اعتبر قائد الفرقة حجاي مردخاي، ما حدث «خطأ». - شكوى أخرى ضد قائد سرية احتياط يدعى ينير عميحا. التقطته عدسة الكاميرا وهو يعتدي على متظاهرين عند حاجز الظاهرية. وأظهرت الصور اعتداءه الوحشي على أحد المتظاهرين حيث راح يركله ويضربه بسلاحه في مختلف أنحاء جسمه. بعد الحادثة بدأ تحقيق الشرطة العسكرية لكن النيابة العامة العسكرية قررت عدم محاكمته جنائياً بل تأديبياً.