فُضّ الاعتصام أمام قصر العدل في بيروت، لكن المتضامنين لم يرحلوا، بل رافق نحو 30 شخصاً الممثلَين اللبنانيَّيْن إدمون حداد وراوية الشاب أمس، إلى داخل قاعة المحكمة، حيث عقدت جلسة الاستئناف في قضيتهما التي اعتبرها ناشطون مدنيون قضية حريات وتضييق على التعبير، فيما صنّفها القضاء اللبناني «إخلالاً بالآداب العامة وحضّاً على الفجور» (في حكم صدر في تشرين الثاني/ نوفمبر 2011 وقضى بسجنهما شهراً وغرامة بقيمة 200 ألف ليرة). نصف الجلسة كان علنياً، في حضور المتضامنين، أما النصف الثاني فارتأت رئيسة المحكمة فريال دلول جعله سرياً، بعد طلب ممثل النيابة العامة ذلك لسبب لم يفهمه المتضامنون، فانتقل الحضور مجدداً إلى موقعهم عند البوابة الخارجية، ليخرج بعد حين من ينبئهم بالنتيجة: تأجلت المرافعة إلى 30 أيار (مايو) المقبل. والواقع أن هذا النبأ الأخير ليس وحده ما أتوا من أجله، فالقضية أكبر عندهم من زملاء أو أصدقاء. يسجلون موقفاً، يظهرون أنفسهم واحتجاجهم، عبر الإعلام التقليدي كما «تويتر» و«فايسبوك»، في وجه السلطات اللبنانية والرأي العام... في بلد تبدأ فيه المخالفات «المشرعنة» من عدم الالتزام بإشارت السير، ولا تنتهي بكسّارات واستملاكات غير قانونية وعمالة تنحدر من الخيانة إلى «وجهة نظر». بدأت هذه القصة في كانون الأول (ديسمبر) 2009، عندما أحيا الممثلان الكوميديان إدمون وراوية سهرةً فنية عنوانها «إنها تمطر رجالاً» (تيمناً بالأغنية الأميركية الشهيرة في الثمانينات)، لجمع التبرعات لجمعية خيرية تعنى بالأطفال المصابين بأمراض القلب. ولّف الثنائي الترفيهي نصّاً مسرحياً كوميدياً بسيطاً، تمثّل في الاتفاق مع 12 شاباً (ممثلين أو هاوين) ليكونوا جزءاً من «اسكتش» طويل قائم على محاكاة مسابقات ملكات الجمال. فتولت راوية إجراء مقابلات قصيرة مع كل منهم، فيما انخرط الجمهور المؤلف عملياً من أصدقاء وصديقات المشاركين، في المزايدة، بمبالغ مالية متواضعة (لم يزد مجموع التبرعات في نهاية السهرة على 4 آلاف دولار)، كدليل على تشجيع مرشّح ما، لوسامته أو ذكائه أو خفة ظلّه. أما إدمون، فكان أحد المشاركين. ذهب في «دوره» والنكتة إلى خلع بنطاله، ليظهر من تحته سروال قصير يحمل رسماً لشخصية «سوبرمان». قد لا يكون إدمون أظرف شاب في لبنان، وقد لا تكون راوية أبرع أو أذكى مؤدية. كثيرون يعرفونهما من برامج تلفزيونية، لكن القلق الذي هيمن على صفحات التواصل الاجتماعي، بلغ أن كتبت إحداهن: «هل نعيش تحت حكم طالبان؟». المهم أنه كُتب آنذاك مقالان نقديان على سهرة «إنها تمطر رجالاً»، في موقع إلكتروني وصحيفة محلية، فتحرّكت النيابة العامة، وما زالت القضية مستمرة منذ ذلك الحين... في بلد تنقل فيه شتائم النواب في جلساتهم على الهواء مباشرة، وتقدم التلفزيونات برامج «كوميدية»، بل حوارية سياسية، يقال فيها ويُفعل أكثر بكثير مما قيل وفُعل في مسرحية إدمون وراوية، برامجها تعرض في البيوت وجمهورها من مختلف الفئات العمرية، على عكس المسرح الذي ارتاده قاصدوه، ودفعوا مالاً (لتذكرة أو لتبرّع)... لكن ساكناً لا يتحرك، اللهم إلا في إطار تصفية حسابات سياسية، لا سيما أن كلاًّ من وسائل الإعلام في لبنان محسوب على جهة سياسية أو مرجعية طائفية، ما يجعل أي ملاحقة قانونية خاضعة إلى «ميزان ذهب» حسّاس. هذا ليس للقول بملاحقة شاشات التلفزة أو أي منتج إعلامي أو فني. على العكس، ففي النهاية، هذه وظيفة النقد والنقاش والحراك المدني–الثقافي في البلد، وظيفة غربلة ووعي نقدي وحوار، في حدود القوانين مرعية الإجراء. المقصود هو الدلالة إلى «الخاصرة الرخوة» التي يمثّلها فنانون ومثقفون مستقلون، في مقابل مؤسسات قوية برؤوس أموالها المادية والمعنوية منذ انتهاء الحرب الأهلية. منذ أيام ومواقع التواصل الاجتماعي على الإنترنت تعجّ بالآراء حول هذه القضية، ومن قبلها قضية رسّام الغرافيتي سمعان خوام (رسم على جدار في منطقة الجميزة عسكريين مدججين برشاشات «إم 16» وتحت كل منهم تاريخ فصل من فصول الحرب اللبنانية)، والمدوّنَين خضر سلامة وعلي فخري (اللذين بخّا على جدار في منطقة بشارة الخوري شعارات تحتج على إطلاق سراح «العميل فايز كرم» وتناصر «الثورة السورية المستمرة»)، وقبلهما بأشهُر قضية الموسيقي زيد حمدان الذي خاطب رئيس الجمهورية بأغنية نقدية ساخرة. شباب وفنانون ومثقفون يستهجنون انصراف السلطات اللبنانية إلى ملاحقة رسوم على الجدران وفنانين، في حين تزخر الصفحات الأولى للصحف المحلية بأخبار عن مأكولات فاسدة منتشرة في الأسواق، وإنقاص وزن رزمة الخبز مع الإبقاء على سعرها، وارتفاع سعر «تنكة البنزين» إلى 40 ألف ليرة (حوالى 27 دولار)، وجرائم السرقة والقتل والخطف المتزايدة وتيرتها في مختلف المناطق. خضر سلامة كان بين المعتصمين، أخبر أن موعد محاكمته ورفيقه علي فخري لم يحدد بعد، وقال إنهما اكتشفا بعد التحقيق معهما وإخلاء سبيلهما، في ظل اعتصام مدني تضامني معهما استمر السبتَ الماضي عشر ساعات، أنهما خضعا للتحقيق من دون أن توجّه إليهما التهم رسمياً، «وهذا باطل قانونياً كما فهمنا». تحدّث عن الرقابة، وعن «وضع أشبه بقانون الطوارئ تعيشه البلاد منذ حرب تموز 2006...، ولا شرعية لهذه الحال في رأيي، لأن أسبابها غامضة وملتبسة، تماماً كما الكثير من القوانين اللبنانية التي نلاحق على أساسها، مثل القدح والذم أو تشويه الممتلكات العامة، فما هو مفهوم التشويه؟ وعلى أي شعارات غرافيتي ينطبق؟ والقدح والذم في من؟ وأين منهما النقد السياسي؟ ما المعيار؟ لا أحد يعرف». يعتبر سلامة أن الرقابة لطالما مورست في لبنان، «لكن، في ظل بعض الحكومات، تتعاطى الأجهزة بذكاء أكبر وتحاذر أن تكون هدفاً سهلاً للإعلام، ويبدو أن الحكومة الحالية ليست كذلك. صودف أننا وسمعان وآخرين، مطّلعون حقوقياً، ولنا اتصالات بالإعلام، لكن هناك قضايا أخرى كثيرة، مثل قضايانا، لا أحد يسمع عنها». سمعان خوام الذي ينتظر النطق بالحكم في قضيته في حزيران (يونيو) المقبل، بدا أمس متحمساً ومعنياً من القلب. تحدث إلى صحافيين عن أهمية الفن وتحريره وتركه للنقد بدلاً من القضاء. وقف إلى جانب الطريق حيث لا رصيف واضحاً، أمام قصر العدل. سيارة تمرّ في زحمة السير، يطلق السائق بوقها مُجفِلاً سمعان المتقّدة أعصابه أصلاً، فيصيح به: «الزمور لن يجعل السيارات تقفز، فلماذا الإزعاج؟»، يخرج السائق رأسه من النافذة ويكيل لسمعان كلاماً بدا قاسياً، غطّت عليه أبواق السيارات المولولة من خلفه، ثم سار في طريقه. هزّ الشاب رأسه كغاضب ويائس في آن واحد، وكأنه تمتم: «عبث في هذا البلد».