لا يمكن الحديث عن متغيرات جذرية في السلوك السياسي للأحزاب والتيارات العراقية منذ تصديها للصراع على السلطة منذ العام 2003، لكن العامين الأخيرين شهدا تطوراً لافتاً في آليات عمل التيارين اللذين يقودهما رجلا الدين الشابان مقتدى الصدر وعمار الحكيم. ويمكن القول ان ظروف العراق المتحركة في شكل عام، والتطورات السياسية المفصلية التي حدثت في توازنات القوى الشيعية على وجه الخصوص مع بروز نجم رئيس الحكومة الحالي نوري المالكي، فرضت على الصدر والحكيم اعادة صوغ منطلقاتهما السياسية باستخدام آليات خطاب جديدة شملت الاقتراب من تفاصيل الشارع اليومية وتداول مفاهيم مثل «الدولة المدنية» و «التداول السلمي للسلطة» و «المصالحة الوطنية» و «اعلاء الدستور» والمطالبة بالخدمات الاساسية والتحذير من «ديكتاتورية جديدة». لكن التطور الابرز لدور رجل الدين يكمن في تلك الفسحة الغامضة الممتدة بين فلسفة «النجف» العريقة التي تتبنى النأي ب «العمامة» عن تفاصيل السياسة ومتغيراتها، وبين نظرية «قم» المبنية على الدمج بين السياسة والدين في شخصية «الولي الفقيه». وتجمع بين الصدر والحكيم عوامل لها خصوصيتها على مستوى الحراك السياسي الشيعي المعاصر، فهما من جهة سليلا عائلتين دينيتين معتبرتين في الذاكرة الوطنية، وهما من جهة اخرى ينتميان الى الجيل الشاب الاكثر قدرة على التكيف والتعلم والاقرب الى تبني التغيير. انتخابات العام 2010 التي نال فيها تيار رئيس الحكومة الحالي نوري المالكي 89 مقعداً في المرتبة الثانية بعد «القائمة العراقية» مقابل نيل القوى الشيعية الاخرى يتصدرها تيارا الصدر والحكيم 70 مقعداً كانت نقطة تحول مركزية في موازين القوى الشيعية، فرضها نوعان من التحديات: الاول: استثمار المالكي في اعادة إحياء الرمز السياسي الشيعي المنفرد غير المعتمد على السلطان الديني للعائلات التقليدية، وتلك قضية بالغة الدلالة نفسياً واجتماعياً، اذا اخذنا في الحسبان الارتباط الشرطي بين الرمزين السياسي والديني في الوعي الشيعي تاريخياً. فالمالكي الذي حمل شعار الدولة المدنية، كان صعوده السياسي يعتمد على أدائه الشخصي في فترة انهاء العنف الطائفي وضرب المليشيات ولم يكن في الواقع يحمل اي دلالة دينية على رغم ان مرجعيته الحزبية تعود الى «حزب الدعوة الاسلامي». والثاني: ان ذلك الصعود اقترن بضرب النفوذ العسكري لأنصار الصدر في المدن الشيعية ميدانياً، وتقويض السطوة السياسية لأنصار الحكيم في تلك المدن إعلامياً وعشائرياً. عمار الحكيم الذي تسلم قيادة «المجلس الاسلامي الاعلى» بعد وفاة والده، اصطدم بمحنة الانتخابات التي وضعت «المجلس» (10 مقاعد برلمانية) في مواجهة اعادة صوغ الاولويات وتغيير الخطاب السياسي ليتواءم مع المرحلة الجديدة، فيما كان مقتدى الصدر (40 مقعداً) يدرك من قراءة اولية للنتائج ان على تياره الذي رفع شعار «المقاومة» ان يخاطب متغيرات المزاج الشيعي العام الذي دعم المالكي والذي سيتخذ مواقف مختلفة مع الانسحاب الاميركي، حيث الاعتبارات التي سمحت بحصوله على حصته البرلمانية الحالية لن تكون متاحة بالضرورة في المرحلة المقبلة. الصدر... استراتيجية الاستفتاءات يقول الصدر في تعليق بالغ الدلالة على بعض مريديه المتمسكين بالسلوك المليشيوي: «أنتم لا تعرفون غير السلاح والقتل، بل أنتم أعداء آل الصدر(...) أشكو إلى الله أن يخلصني من الثلة التي لا يوجد في عقلها ولا قلبها سوى الحرب والسلاح (...) حينما تريد منه الوقوف معك للعلم والثقافة والسلام يتخلى عنك، وكأننا آل الصدر مجرد حملة سلاح (...) لقد شوهوا سمعتنا وجعلوا الآخرين ينظرون الينا بصورة مختلفة عن واقعنا». ذلك الخطاب الشديد اللهجة يلخص توجهات الصدر الجديدة التي تبلورت ونضجت خلال العامين الاخيرين في شكل اكثر وضوحاً، ويعكس المقاومة الشديدة ايضاً التي تواجهها فكرة الانتقال بتيار الصدر من تنظيم مسلح متهم بالمشاركة في الحرب الاهلية الى تنظيم سياسي فعال قابل للتكيف مع مفهوم «الدولة المدنية». ويبرر بعض أنصار الصدر هذا التحول بالانسحاب الاميركي من العراق وانتفاء الحاجة الى حمل السلاح، فيما يذهب آخرون الى الحديث عن نضوج الصدر نفسه بعد قضائه سنوات عدة من الدراسة الدينية في مدينة قم، ويمكن اضافة اسباب مركزية اخرى مثل اكتشاف الصدر عبر التعايش اليومي مطبات تجربة الحكم الاسلامي في ايران التي اظهر لها خلال الشهور الماضية لهجة تختلف عن لهجة السياسيين العراقيين المقيمين فيها لفترات طويلة، بل إن الصدر نصح في احد بياناته بألا يكون سعي الحكومة العراقية الى استثنائها من العقوبات الدولية على ايران على حساب المصلحة العراقية نفسها، فيما عنف بعض انصاره بشدة لمطالبتهم بحمل السلاح ضد دول الخليج. الملاحظة الابرز تكمن في آليات خطاب الصدر نفسها، فهو اعتمد على ما يمكن تسميته «استراتيجية الاستفتاءات»، و «الاستفتاء» كتقليد ديني يتعلق بطلب المقلدين او الأتباع فتاوى شرعية من رجل الدين الذي يشكل مرجعية لهم، وهذا التقليد طوره الصدر الى ماكينة اعلامية بالغة التأثير قلصت الفجوة التي حدثت مع أتباعه ومع الشارع ووسائل الإعلام منذ مغادرته العراق قبل نحو ست سنوات، فتحولت ردوده على «الاستفتاءات» الى مادة اعلامية يومية ومصدر قياس لتوجهات التيار الجديدة. وكان لافتاً ان الصدر حرص على التواصل «العفوي» مع انصاره عبر تلك «الاستفتاءات» التي لا تخضع لتدقيق او مراجعة قبل نشرها حتى على مستوى الصياغة واللغة، بل انه يجيب احد انصاره بالقول: «كلامك هذا لا معنى له، بل خرط»... وتلك العفوية تبدو «مقصودة» ومرتبطة بجوهر العلاقة الرمزية بين الصدر وأنصاره وبترسيخ فكرة التنظيم الاساسية كتيار شيعي نشأ داخل العراق وحمل شعار نصرة المسحوقين والمهمّشين. وأبعد من هذه الجزئية، فإن الصدر استثمر هذا المنبر لحضّ أتباعه على تبني مجموعة من المتغيرات، فدعا الى مقاطعة «عصائب اهل الحق» واتهمها بالتورط في دماء العراقيين والاساءة الى تياره في موضوع المشاركة في الحرب الطائفية 2006 – 2007، وتجريم المدعو «ابو درع» الذي ارتبط اسمه بفظائع حدثت خلال تلك الحرب، ونجح الى حد كبير في «عقلنة» مليشيا «جيش المهدي» التابعة له عبر تجميدها وتحويلها الى «منظمة ثقافية» قبل ان يحدث عمليات جراحية في صميم التيار شملت اعادة هيكلته وإنهاء الترهل في مكاتبه عبر اختصارها، وأيضاً دعم «الهيئة السياسية للتيار» في مواجهة قادة المليشيات السابقين، وزج عناصر من الكفاءات وأساتذة الجامعات في هيكلية التيار التي خاضت انتخابات 2010 بدماء تكاد تكون جديدة في معظمها. والقاسم المشترك في استراتيجية الصدر هو التشديد على ترك العنف واستخدام الحوار السياسي وإبداء الرأي في كل القضايا التي تطرأ على الساحة السياسية، فيحذر من عودة الديكتاتورية الى العراق، ويتمسك بالدستور، ويعتبر الفيدرالية خياراً شعبياً، ويدين قتلة «الايمو»، كما يرفض فصل الإناث عن الذكور في الجامعات، ويسمح لأنصاره بالعمل في السفارة الاميركية، ويدين سيطرة الحكومة على الهيئات الخاصة، ويلمح الى رغبة تياره بتولي رئاسة الحكومة في المرحلة المقبلة بعدما كان فرض على كتلته السياسية المطالبة بتولي الوزارات الخدمية لا السياسية او العسكرية. الصدر يظهر ايضاً تشدداً مع نواب من كتلته دارت اتهامات فساد او سوء سلوك حولهم، وينصح بإطلاق استفتاءات شعبية حول قضايا مثل اختيار المرشحين عن تياره، ويدعو الى «ميثاق شرف وطني» يتجاوز خلافات الماضي ويمنع الاقتتال الطائفي، ويتبرأ من اي شخص يوصم بأنه من تياره ويرتكب اعمال عنف او يشارك في الأحداث الجارية في سورية. الحكيم... استراتيجية التفاعل المراقب لحراك السيد عمار الحكيم يلمس بوضوح ذلك النشاط غير المسبوق في نطاق «المجلس الاسلامي الاعلى» يتصدى له بروح شبابية وتكتيكات مختلفة، معوضاً عن افتقار «صقور المجلس» المخضرمين الى الحيوية نفسها. الحكيم ورث هيكلاً حزبياً محكوماً بعقلية المعارضة وبعيداً من اسس التواصل الحديثة مع الشارع، لكنه يفسر ذلك بالقول ان «من الطبيعي أن يقع قادة العراق في أخطاء، كونهم كانوا معارضة لفترات طويلة، ولم يتيسر لهم أن ساهموا وشاركوا في الحكم في وقت مضى». كما انه (الحيكم) تسلم حزباً تراجع من صدارة المشهد السياسي العراقي الى مراحل متأخرة فيه، ويتعرض لانشقاق داخلي فادح عبر انفصال «منظمة بدر» بقيادة هادي العامري عنه. بل إن وصول عمار الحكيم الى رئاسة المجلس الاعلى لم يكن يسيراً بدوره، فالمجلس يضم مجموعة من «النجوم» السياسية والدينية المهمة التي كان لها دور بارز وحشدت الأتباع والنفوذ داخل المجلس. لكن عنصر القوة الذي انطلق منه الحكيم الشاب يتعلق بعدم تحمله شخصياً مسؤولية خسارة الانتخابات الاخيرة باعتبارها تأتي انعكاساً لسياسات سابقة، بل إن خسارة الانتخابات كانت مناسبة لإحداث التغيير الذي يكاد يكون جذرياً في آليات عمل «المجلس الاعلى» وعلاقته بالشارع. والاستراتيجية التي اعتمدها الحكيم في الاقتراب من أنصاره تعتمد على الوجود المستمر في قلب الاحداث عبر تنظيم عشرات المؤتمرات والملتقيات الاجتماعية والثقافية والرياضية، ورعاية مبادرات مثل الزواج الجماعي ودعم هيئات مدنية شبابية ونسائية والانفتاح على منظمات المجتمع المدني. انعكست «شبابية» الحكيم في خطابه السياسي نفسه، فهو تجنب في شكل كامل الاشارة الى مشروع «فيدرالية الوسط والجنوب» وركز على مفاهيم مثل «حكم العراق توافقياً» والتمسك بطي صفحة الماضي، وحض أنصاره على كشف ملفات الفساد وتوضيح التقصير في أداء الحكومة، كما انه رفض ما سمّاها في احدى خطبه «سياسة التنكيل بالآخر»، في اشارة ضمنية الى وضع السنّة العراقيين، واستقبل فنانين ورياضيين وعلماء، واستخدم مستويات مختلفة من الخطاب وفق مناسبته، لكنه حرص على تبني تعبيرات اصبحت ذات دلالة على المستوى السياسي العراقي مثل «الطاولة المستديرة» و«تصفير المشاكل» و«الشفافية لا التشفي». ويكاد الحكيم يكون من اكثر رجال الدين والسياسيين استخداماً لمواقع التواصل الاجتماعي ك «الفايسبوك» في التعبير عن آرائه، لكنه يختار جملاً مركزة للتعبير عن مواقفه، فيقول في احدى المناسبات: «ان صندوق الاقتراع سبيل العراقيين في معالجة أخطائهم او التجديد لمن هم أهل لإدارة شؤونهم»، ويكتب: «نتمنى من وزارة العمل والشؤون الاجتماعية ان تطور مشروع منح القروض الميسرة للشباب»، و «مشروعنا بناء الدولة العصرية الناجحة لخدمة الوطن والمواطن»، و«الارهاب يسعى ان يتصيد في الماء السياسي العكر فصفّوا مياهكم ايها السياسيون»، و«الظواهر السلوكية لا تعالج الا بالتواصل وبالفكر وبالثقافة وبالنصيحة». صناع الملوك المتغيرات السياسية التي طرأت على منهجية الصدر والحكيم ونزعتيهما الشبابية والطموحة، ما زالت بدورها لا ترقى الى الزج بهما في المنافسة السياسية المباشرة، فهما يتمسكان بدور «صانع الملوك» فيعزفان عن زج اسميهما في قوائم انتخابية او ممارسة العمل السياسي في شكل مباشر. والحقيقة ان الوضع السياسي العراقي بتعقيداته المربكة ما عاد يسمح بذلك الفصل بين قائد الحزب او التيار وبين الممارسة السياسية المباشرة للعمل السياسي او البرلماني. الأبعد من التمثيل السياسي، والتحرك في اطار المساحة الواسعة لدور رجل الدين، ان الصدر والحكيم يحاولان بدورهما استعادة المعادلة التي وضعت منذ العام 2003 لحكم العراق وتغيرت اولوياتها في فترة حكم المالكي الاخيرة. فالمعادلة التي اوصلت المالكي الى الحكم مفادها: «حاكم يمثل شيعة العراق اولاً ويحظى بتوافق اميركي - ايراني وقبول اقليمي ثانياً ويجمع الحدود الدنيا المقبولة من التوافق الداخلي المكوناتي»، فيما المعادلة التي سبقت مرحلة المالكي ويحاول الصدر والحكيم اعادة إحيائها تتلخص ب «حاكم يمثل شيعة العراق اولاً، ويحظى بإجماع داخلي مكوناتي ثانياً، وينال الحدود المقبولة من التوافق الاقليمي والدولي». بين هاتين المعادلتين تكمن اليوم ازمة العراق، فالمالكي في هذه اللحظة لا يزال ممثلاً لشيعة العراق، وربما طور حضوره الشيعي، كما انه ما زال ينال توافقاً اميركياً – ايرانياً على شخصه، في مقابل تذبذب في الموقف الاقليمي من حكمه وحدوث خلل كبير في قبوله الداخلي من جانب المكونات الاخرى كالسنّة والاكراد، وهو يدرك هذه المعادلة فيقترح اعادة إحياء مفهوم «حكم الغالبية السياسية» وهو مفهوم مقبول سياسياً وديموقراطياً، ما عدا ان تلك الغالبية المقترحة برأي الاطراف السياسية الاخرى ما زالت حتى اليوم في العراق «غالبية مذهبية». يعلق الصدر في اشارة الى لقائه رئيس حكومة اقليم كردستان نيجرفان بارزاني في ايران بأن هدف اللقاء هو منع انزلاق العراق الى ديكتاتورية جديدة، فيما يكرس الحكيم نظرية «الطاولة المستديرة» لتأكيد أن حكم العراق لا يتم الا بتوافق بين مكوناته. في المقابل، للمالكي عوامل قوة حقيقية كرسها في السنوات الست الماضية، خصوصاً في الشارع الشيعي الذي يحاول تجنب فتح صراع للمدارس الدينية الشيعية تتباين تقديرات خطورته خصوصاً في مرحلة التنازع على خلافة المرجع الاعلى السيد علي السيستاني.