لم تحترم إسرائيل اتفاق الهدنة الموقَّع مع مصر في 24/2/1949؛ الذي أنهى جولة الحرب الأولى بينهما، وذلك عندما أغارت قوة إسرائيلية بقيادة إسحق رابين على قرية أم رشرش المصرية واحتلتها في 10 آذار (مارس) من العام نفسه. وفي العام 1952 دشنت إسرائيل ميناء كبيراً على أنقاض القرية بعدما هوَّدت اسمها ليصير إيلات. على أثر تلك العملية العسكرية الاستيطانية الخاطفة، واجهت إسرائيل باكورة الاتهامات، التي صارت تقليداً عربياً لازم وجودها بعد ذلك، بأنها دولة لا ترعى العهود والمواثيق. لكن الأهداف المتوخاة كانت من الأهمية والحساسية، بما يساوي وزيادة أن يتجاهل منظرو المشروع الصهيوني أي قواعد قانونية أو أخلاقية تحول دون الاستيلاء على تلك البلدة. فأم رشرش تقع بين محلتي العقبة الأردنية وطابا المصرية، وبالسيطرة عليها يتحقق لإسرائيل الوليدة وقتها إيجاد موطئ قدم ومنفذ على البحر الأحمر، يصلها بالدول الآسيوية والأفريقية المشاطئة للمحيط الهندي. ولا يقل عن ذلك أهمية وخطورة أنها ستتمكن عبر هذا الموطئ من الفصل الكامل جغرافياً بين مشرق العالم العربي ومغربه. أصابت تلك الفعلة الإسرائيلية لوجستية الأرض العربية المنبسطة من بحر العرب والخليج شرقاً، إلى ساحل الأطلسي غرباً بضربة استراتيجية مؤلمة. إذ كان احتلال هذه القرية التي لا تكاد تبين إيذاناً بقطع هذا التواصل، الأمر الذي لم يسبق أن جرى على مدار التاريخ ولا أفلح غزو خارجي في إحداثه من قبل. ولذا شكلت محاولة استعادة القرية لمصريتها وعروبتها، أحد مواجد السياسة المصرية وهمومها ومطالبها بين يدي التفاوض السري والعلني مع إسرائيل، ولا سيما قبل توقيع معاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية عام 1979. والى لحظتنا هذه ثمة من يطالب في مصر، شعبياً من خلال جمعية أهلية مختصة، ورسمياً بإلحاح أقل وفي مناسبات متفاوتة، بمتابعة هذه القضية واعتبار هذه القرية أرضاً محتلة يتعين استردادها. وفي عام 1985 طالب الرئيس السابق حسني مبارك الإسرائيليين بالتفاوض على هذا الأساس. على أن بعض العرب الواعين إلى ضرورة وصل ما انقطع من جغرافية وطنهم الكبير بفعل الغزوة الصهيونية، لم ينتظروا إلى أن يلقي التاريخ كلمته الأخيرة حول مصير أم رشرش. وكان الملك السعودي الراحل فهد بن عبدالعزيز في طليعة هؤلاء الغيورين، حين طرح الأخذ بالبديل الممكن، وهو بناء جسر علوي بطول 23 كيلومتراً، يبدأ من رأس نصراني قرب شرم الشيخ مروراً بجزيرة تيران في خليج العقبة لينتهي عند رأس حميد على الشاطئ السعودي شرقاً. وأثناء زيارة الملك لمصر العام 1988 تم الاتفاق على مبدأ تنفيذ هذه الخطوة الفارقة، بالنظر إلى «... التيقن من جدواها القومية سياسياً واقتصادياً وبيئياً وإمكانية تطبيقها معمارياً». وفي ذلك الحين، نالت الفكرة استحسان «جمعية الطرق العربية»، التي اعتبرت الجسر من أهم المشاريع الإنشائية العربية بسبب دلالاته الوحدوية. وفي السياق ذاته، أكدت ستة مكاتب استشارية عالمية أن هذا المشروع ينطوي على جدوى اقتصادية وأنه سيغطي كلفته في غضون عشرة أعوام لا أكثر. الأمر الذي شجع سبع مجموعات استثمارية دولية على التقدم بعروض لإنشائه في فترة قياسية. بقدر ما كانت هذه المعطيات واعدة ومبشرة، كان موقف الرئيس المصري السابق حسني مبارك محبطاً، حين عارض لاحقاً الفكرة برمتها بذريعة أن الجسر سيؤثر سلباً في السياحة في شرم الشيخ. وسواء استند ذلك التبرير إلى قناعة حقيقية لدى مبارك أم كان غطاء لما قيل عن رفض إسرائيلي - أميركي غاضب تجاه هذا المشروع الوحدوي المتميز، فقد كانت النتيجة أن أصيب المشروع والمناظرات الخاصة به بالسكتة السياسية لأكثر من عشرين عاماً. فطبقاً لما باح به فؤاد عبدالعزيز؛ رئيس «جمعية الطرق العربية»، فإن مبارك «كان قد غلق كل الأبواب أمام تلك المناظرات طوال هذه الفترة». غير أن الآمال بإحياء المشروع راحت تنبعث بفعل اهتمام رئيس الوزراء المصري السابق عصام شرف، الذي وعد بالعمل على تفعيله جدياً بعد مزيد من التحري والبحث. وتأكدت أخيراً صدقية هذا الوعد، بأن أعلنت مصادر رسمية مصرية وسعودية في أوائل آذار (مارس) الماضي تحول تنفيذ مشروع الجسر إلى أولوية سياسية لدى كل من القاهرة والرياض، وذلك «... عوضاً عن بقائه من الأفكار المرجأة والمهجورة ردحاً من الزمن...». ومن خلال التفاصيل التي تسربت عن هذا الإعلان، عرفنا أنه تم الاتفاق على بدء العمل في بناء الجسر الذي سيحمل اسم الملك عبد الله بن عبدالعزيز منتصف العام 2013. سيكون تدشين هذا الجسر واحداً من أعظم المكتسبات والأصداء العروبية لثورة 25 كانون الثاني (يناير) المصرية بالتعاون مع القيادة السعودية. ومما يمكن طرحه في معرض الإشارة إلى عوائده، بخلاف تخطي لعنة العائق الإسرائيلي الجاثم بين جناحي العالم العربي خلال رحلة تقطعها السيارة في أقل من عشرين دقيقة، أن الجسر سيساعد على انسياب حركة النقل والتجارة، بخاصة في مواسم الحج والعمرة، وكذلك الحال بالنسبة إلى حركة العمالة المصرية والعربية المغاربية إلى دول الخليج. كما سيساهم في تيسير تدفق الاستثمارات الخليجية في الاتجاه المعاكس، وسيعظم حجم السياحة البينية العربية ولا سيما في منتجع شرم الشيخ. إلى ذلك ونحوه، سيعمل الجسر على وقف نزيف الدم على الطريق البري بين مصر والسعودية، والتقليل من استخدام العبَّارات البحرية الذي عادة ما يصحبه العنت وبعض الأخطار. صحوة مصرية ومن المثير واللافت أن يتواكب هذا المسعى ويتزامن مع صحوة مصرية إزاء قضية استرداد أم رشرش. ففي سياق أول حملة انتخابية لمجلس الشعب (البرلمان) المصري بعد ثورة 25 يناير، صرَّح أحد أقطاب حزب «الحرية والعدالة»؛ الجناح السياسي لجماعة «الإخوان المسلمين»، بأن الحزب، الذي يحظى راهناً بالأغلبية البرلمانية، يزمع فتح ملف هذه القضية بالوسائل القانونية في الوقت المناسب. مثل هذه المستجدات يوحي بأن ملف الوصل الجيوستراتيجي بين جناحي الوطن العربي الذي أهمل طويلاً أصبح ضمن شواغل المرحلة، وأغلب الظن أنه لن يسلم من كيد المتربصين والمرجفين لإيداعه قمقم الهجران تارة أخرى. والمؤمل أن يتم دفن هذا الكيد إلى الأبد تحت حجر أساس الجسر في لحظة نرجوها قريبة.