تشير أي عملية حسابية دقيقة وثاقبة إلى فشل السياسة الغربية في أفغانستان. فحركة «طالبان»، بقيادة زعيمها الملا عمر، رفضت كل المحاولات الهادفة إلى جرّها إلى طاولة المفاوضات، إذ يكمن هدفها المعلن في إخراج القوات الأجنبية من البلد وإعلان انتصارها. ويبدو أن الجهاد المسلح، وهو عبارة عن مزيج فتاك من تطرف هذه الحركة وكرهها القبلي للأجانب، وهو الجهاد الذي قام الغرب بتسليحه والترويج له من أجل هزيمة السوفيات، قد تحوّل الآن ضد الدول الغربية للانتقام منها. وفي الوضع الراهن، تبدو الأهداف الغربية في أفغانستان، أي هزيمة حركة «طالبان» وبناء دولة أفغانية ديموقراطية وفاعلة، هي اهداف بعيدة أكثر فأكثر عن الواقع. والحال أن عدد القتلى في صفوف القوات الأميركية والبريطانية يرتفع، فيما يشهد البلد الذي تجتاحه الحرب ركوداً اقتصادياً، وتجد حكومة الرئيس حميد كرزاي الفاسدة وغير الكفوءة صعوبةً في فرض سيطرتها خارج كابول. علاوةً على ذلك، برز عنصر جديد مهم تمثّل في معارضة الحرب من قبل الرأي العام الغربي، لا سيما في بريطانيا وألمانيا. بالتالي، يبدو أن الوقت قد حان لإعادة التفكير بشكل جذري في الاستراتيجية الغربية. يأمل كرزاي، الذي وصل إلى السلطة بدعم غربي منذ أكثر من سبع سنوات، أن يفوز بولاية رئاسية ثالثة إثر الانتخابات التي ستجري في 20 آب (أغسطس) المقبل. وهو يواجه منافسةً شرسةً من قبل أربعين شخصاً، بمن فيهم وزير الخارجية الأسبق عبدالله عبدالله ووزير المال الأسبق أشرف غاني. وقد دعا هذا الأخير بشكل خاص إلى وقف اطلاق النار لمدة ثلاث سنوات مع حركة «طالبان» في خطوة لوقف الحرب. وتعهّد كرزاي، الذي خسر غالبية الدعم الغربي الذي كان يحظى به، بأن يحاول، في حال أُعيد انتخابه، التفاوض مع حركة «طالبان». لكن لا توجد أي إشارة تدل على أن الحركة ستستجيب لخطوة مماثلة، سيّما أنها في موقع قوة. أما اقتراح كرزاي الأخير والقاضي بإعادة تعيين الجنرال عبدالرشيد دستم، وهو وزير دفاع سابق أثار الكثير من الجدل حوله، رئيساً للأركان، فلن يطمئن حركة «طالبان» لجهة نواياه الحسنة. ويُقال إن دستم، وهو أمير حرب سابق أُدرج اسمه على لائحة المطلوبين من قبل وكالة الاستخبارات الأميركية، كان مسؤولاً عن ارتكاب مجزرة بحق المئات وربما الآلاف من السجناء من حركة «طالبان» خلال اجتياح عام 2001. بالإضافة إلى ذلك، ارتكب الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن أخطاءً فادحة دفعت ثمنها القوى الغربية والعراقيون والأفغان ثمناً باهظاً. فبعد الاعتداءات التي نفذّها تنظيم «القاعدة» في 11 أيلول (سبتمبر) 2001 في الولاياتالمتحدة، قرّر بوش اجتياح أفغانستان للإطاحة بحكومة «طالبان»، ومن ثمّ حوّل جهود أميركا العسكرية عام 2003 إلى العراق بناء على حجة تبين أنها خاطئة، مفادها أن صدام حسين مرتبط ب «القاعدة» وكان يطوّر أسلحة الدمار الشامل. إلا أن تنظيم «القاعدة» هو الذي نفّذ اعتداءات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) وليس الأفغان ولا العراقيون. وتبيّن أن العملية، التي كان من المفترض أن تكون عمليةً ضيقة النطاق ومركزة جداً لمكافحة الإرهاب، بقيادة القوات الخاصة ووكالات الاستخبارات والشرطة، والهادفة حصرياً إلى شلّ تنظيم «القاعدة»، قد تحوّلت إلى حربين كبيرتين وأدت إلى احتلال كل من أفغانستان والعراق وأخلّت باستقرار باكستان. وفي هذا الوقت، لا يزال أسامة بن لادن والقادة القريبون منه أحراراً. عارض الرئيس باراك أوباما الحرب على العراق وهو مصمّم بوضوح على سحب كل القوات الأميركية من هذا البلد. لكن يبدو أنه يرتكب الخطأ نفسه الذي ارتكبه بوش في أفغانستان، ما قد يتسبب بعواقب وخيمة على باكستان. فقد أرسل المزيد من القوات الأميركية إلى أفغانستان وأطلق بمساعدة بريطانيا هجوماً ضد معاقل «طالبان» في جنوب البلد وشرقه. وفي الوقت نفسه، تمّ دفع باكستان إلى شن حرب على القبائل في المحافظة الشمالية الغربية، ما أدى إلى نزوح أكثر من مليوني شخص فقير ومذعور. قد يتساءل المرء إن كانت هذه هي الطريقة الفضلى لهزيمة «القاعدة»، أم أن هذه الاستراتيجية تولّد نتائج عكسية؟ فعوضاً عن فصل تنظيم «القاعدة» عن حركة «طالبان» وعن قبائل الباشتون العنيفة على جانبي الحدود الباكستانية - الأفغانية حيث يتطوّع معظم المقاتلين مع حركة «طالبان»، ساهمت السياسة الغربية في دمج «طالبان» وقبائل الباشتون و «القاعدة» ضد عدو واحد. وتُعتبر المعضلة شائكة بشكل خاص بالنسبة إلى القوات المسلحة البريطانية المنتشرة بشكل واسع وإلى موازنة البلد المستنزفة وإلى رئيس الوزراء البريطاني غوردن براون الذي يتعرض وضعه للحرج. ويصل عدد القوات المسلحة البريطانية إلى 187 ألف رجل وامرأة ويتم تمويلها من موازنة عسكرية حالية تبلغ 38 بليون جنيه استرليني (حوالي 62 بليون دولار) علماً أنه تمّ تخصيص 9 بلايين جنيه (15 بليون دولار) منها للأسلحة والمعدات. وتُمارس ضغوط كبيرة من أجل تقليص موازنة الدفاع ومن أجل التخلي عن بعض المعدات، في وقت يزعم فيه من ينتقدون ذلك أن القوات البريطانية في أفغانستان تعاني نقصاً في الجنود والمعدات اللازمة لتأدية المهمّة التي أنيطت بها. ولبريطانيا 9 آلاف جندي في أفغانستان وهي ثاني أكبر قوة عسكرية بعد الولاياتالمتحدة. وقد خسرت 184 جندياً في أفغانستان أي خمس مرات أكثر من عدد الجنود الذين خسرتهم في العراق. كما خسرت الولاياتالمتحدة 732 جندياً في أفغانستان و4322 جندياً في العراق. وقد يتساءل المنتقدون ما هي هذه القضية النبيلة التي قضى من أجلها هؤلاء الشبان نحبهم؟ وتعهّدت المعارضة بقيادة دايفيد كاميرون زعيم حزب المحافظين، والتي من المرجح أن تفوز في الانتخابات البريطانية المقبلة عام 2010، بإعادة النظر في استراتيجية الدفاع الجديدة، ما يعني احتمال حصول تأخّر أو تقليص في البرامج العسكرية الأساسية على غرار شراء حاملتين للطائرات بكلفة متوقعة تبلغ 4 بلايين جنيه استرليني لكنهما لن تدخلا الخدمة قبل عام 2018، في حال تم إرسالهما. كما قد يتأخر استبدال الصواريخ الثلاثية الأبعاد الأميركية الصنع في الغواصات النووية البريطانية التي تكلّف بلايين الجنيهات. وتتضمن المعدات الأخرى التي تم تأخير إرسالها مركبة جديدة مصفحة للمشاة وجيل جديد من طائرات الاستطلاع البحري من طراز «نمرود» ومدمرات للبحرية الملكية. ومن بين السفن الست التي تمّ تصميمها، ستبدأ واحدة فقط العمل في شهر كانون الأول (ديسمبر) 2009. كما تأخّرت المقاتلة الضاربة المشتركة التي يطوّرها البريطانيون مع شركة "لوكهيد مارتن" الأميركية بشكل ملحوظ. وفي هذا الوقت الذي يشهد أزمةً ماليةً مؤلمة وحيث من المتوقع أن ينخفض إجمالي الناتج المحلي في بريطانيا بنسبة 3.5 في المئة في السنة الحالية، يمارس الشعب والسياسيون والمسؤولون العسكريون الضغوط من أجل خفض النفقات العسكرية لبريطانيا في أفغانستان. لكن بعيداً عن الحاجة الملحة لتقليص المصاريف، هل صحيح ما كرّره كل من باراك أوباما وغوردن براون بأنه إن لم تتم هزيمة حركة «طالبان» في أفغانستانوباكستان، سيواجه العالم إرهاب تنظيم «القاعدة»؟ وهل يمكن للجيوش الغربية أن تأمل في إنشاء دولة قابلة للعيش، تقودها حكومة قوية ومركزية في أفغانستان، وهو بلد ذو طبيعة جبلية ويضمّ قبائل مستقلة شرسة؟ وعوضاً عن إطلاق عمليات عسكرية واسعة ألن يكون أكثر حكمةً بالنسبة إلى أميركا وحلفائها أن يعتمدوا استراتيجية مركّزة لمكافحة الإرهاب؟ عوض أن يصبح العالم أكثر أماناً، يبدو أن الحربين في أفغانستانوباكستان تؤديان إلى ولادة المزيد من الأعداء للغرب. * كاتب بريطاني متخصّص في شؤون الشّرق الأوسط